صقر الشبيب والأسئلة المفتوحة
ماذا يتبقى من علائق نفسية أو فكرية بيننا وبين شاعر مثل (صقر الشبيب) بعد مرور حوالي نصف قرن على وفاته؟ وماذا يفيد استرجاع سيرته الحياتية والشعرية وكأننا ندير أغنية قديمة؟ إن السِيَر بشكل عام قد لا تقيم بناءً معرفياً ما لم تحرّض على إطلاق الأسئلة، والتجارب الشعرية والحياتية تغدو بلا قيمة إذا انحصرت بالاستعراض المسترخي والسرد الداني. وتجربة مثل تجربة صقر الشبيب رغم وعورتها تحفّز على التساؤلات، ففي تضاعيفها تندس الكثير من المنحنيات والمزالق والحفر، أو بلغة النقد الكثير من الفراغات والنقط الخرساء والبياض المسكوت عنه.
فنحن في البدء إزاء حياة جمعت الأضداد والمتناقضات، ففي حين يبدو لنا فيه صقر الشبيب – كما تقول سيرته – عصامياً، مستعلياً على ظروف معيشته المتواضعة، طالباً للعلم والتميّز، مفعماً بالتساؤل والرغبة في الجدل، متطلعاً إلى التجديد ومواكبة العصر، نراه من جانب آخر ذلك الشاعر المستلَب، القانط، المتقهقر أمام الخصوم، المكروب بالهشاشة والعاهة والضعف، المستسلم للشكوى وعُقد الاضطهاد، والمنتهي أخيراً إلى الغروب والعزلة. لا يمكن تعليل هذه المتناقضات على أية حال إلا بافتراض عنصر الصراع كمفصل أساسي في تلك الحياة. وهو صراع يتلامح على عدة مستويات تصبّ كلها في النهاية في مجرى واحد، يهدر في خاتمة المطاف نحو وادٍ مخيف من الوحشة وظلمة الفناء. ولعل أولى بوادر الصراع تنبتُ في محيط الأسرة، الحضن الذي لم يكن حضناً، حين تستوحش العلاقة بين الشاعر وأبيه وتأخذ شكل الجفوة والقطيعة، فيرى الفتى نفسه ساقطاً في الفراغ، لا لشيء إلا لأنه يميل إلى الشعر وأبوه يريده واعظاً! ثم يأتي المستوى الثاني من الصراع وهو بروز الخصوم، وعدم التكافؤ بين أسلحة الشاعر وأسلحتهم. فهو حين يطعن في تخلفهم وريائهم وتحجرهم، فإنهم يطعنون في عقيدته ودينه. مما يجرّه إلى سجال خارج اللعبة، يتمحور حول الدفاع عن الذات المستباحة، مما أرهق قواه وحجّمها عند هذا المأزق، وجرّ وراءها جملة من المواقف السلبية المدمّرة مثل العزلة والانكفاء، واجترار آلام العجز والعاهة، ومخاصمة الحياة والرغبة في الموت. والسؤال في هذا المقام: هل ما عاناه صقر الشبيب كان يدور حول أزمته مع الآخرين، أم أزمته مع ذاته؟ تلك الذات التي ما استطاعت تحديد أولوياتها في معركة الحياة، وما استطاعت التعرف على خصومها! هل هم الآخرون؟ أم هي أشباح النفس تتناسل وتتراءى بتلك الصور المضخمة المهولة؟يبدو من المشهد العام لأزمة الشاعر أنه كان ضحية سهلة لجملة من أمراض النفس، كالسوداوية وعُقد الشعور بالاضطهاد، وإدمان الشكوى، مع ميل واضح لتعذيب الذات وجلدها، ونزوع أكثر وضوحاً نحو الموت والانتحار المعنوي. ولعلنا لسنا مغالين في هذا السرد لأدواء النفس، وكلها بارزة وصارخة الوضوح في شعره الشاكي، المعذّب، القانط، المتهكم حدّ المرارة، الساخر حدّ اللوعة. وقد يكفينا التمثيل في هذه العجالة على كون صقر الشبيب ضحية لمرض النفس بتلك العزلة التي اتخذت شكل الإصرار الذي لا رجعة عنه، والتي كانت الوجه الآخر لانتحار بطيء مقصود. وهنا يعود التساؤل: ألم يكن صقر الشبيب – آخذين بعين الاعتبار مكانته الشعرية ونوازعه الإصلاحية – مهيأً لدور أكبر من الدور الذي لعبه؟! ألم يكن لديه من الأعباء والمسؤوليات وأحلام التطوير ما يحفزه لتقمص شخصية أكثر صلابة وقدرة؟! ألم يكن أمامه من الفرص الواعدة، ومظاهر التقدير من الكُبَراء وأفاضل العلماء والشيوخ ما يعيده إلى تمثّل ذلك الدور والإصرار عليه؟! ولماذا أصبح بدلاً من ذلك يستمرئ بطريقة ماسوشية كل صنوف عجزه وتهافته؟ فيعلل عدم الاستجابة للدعوات الكريمة الموجهة له من فضلاء القوم وخاصتهم مرةً بالعمى، ومرةً بزحام الطرق وأذاها! ويحتجّ على بطالته برثاثة ثيابه! ويعلل رفضه للاجتماع بالناس بالرغبة في البعد عن الخصام وتجنّب القيل والقال! وبذلك كان صقر الشبيب إلى جانب حيله الهروبية وانتحاره الاجتماعي، كان أيضاً ينتحر شعرياً إذا جاز التعبير. إذ بقي شعره أفقياً، متشابهاً، مكرراً في لغته وتقنياته الفنية. فقد اعتزل شعرُه حياة التطور والنمو ومواكبة مستجدات المشهد الشعري كصاحبه تماماً.وأخيراً يغادر الشاعر حياة بلا معنى ولا عنفوان، تاركاً وراءه هذا الكم من الأسئلة! وكماً أكثر من علامات التعجب!