البوصلة و الأب الروحي

نشر في 24-08-2012
آخر تحديث 24-08-2012 | 00:01
No Image Caption
 مجدي الطيب في أميركا والدول المتحضرة لا يُترك النجم وحده في مهب الريح أو تحت رحمة الظروف والأزمات والقرارات، بل يعمل في إطار منظومة صارمة لا تمثل بالنسبة إليه «البوصلة» التي تُحدد اتجاهاته وتقود خطواته فحسب، وإنما تتحول مع الأيام إلى «المطبخ» الذي يضع «استراتيجيته» ويرسم مستقبله ويُحصنه ضد القرارات العشوائية التي تصدر عن الهوى.

في الأربعينيات والخمسينيات وحتى مطلع الستينيات عرفت مصر ظاهرة «المطبخ» بطريقة أكثر تحضراً، عندما كانت تسوق الأقدار في طريق صاحب الموهبة الواعدة من يصقل موهبته ويهذب شخصيته ويُخلصه من جهله، عبر «صالون فكري» أو «منتدى مثقفين» أو حتى جماعة من «الحرافيش» تجتمع في مقهى أو «كازينو» على النيل!

هكذا تتلمذ محمد عبد الوهاب، في فترة مبكرة للغاية، على يد أمير الشعراء أحمد شوقي، ونشأت أم كلثوم في حضرة الشيخ أبو العلا محمد، لكن الظاهرة اتخذت شكلاً أكثر عمقاً مع عبد الحليم حافظ الذي احتضنه الكتاب والأدباء والمثقفون، وأصبح ضيفاً دائماً على جلسات الكبار: حسن فؤاد وصلاح حافظ وفتحي غانم وجمال كامل ومنير عامر ومفيد فوزي والكاتب الصحافي محمود عوض.

ارتبطت شادية أيضاً بعلاقة والكاتب الصحافي الكبير مصطفى أمين أسفرت عن كتابته قصة فيلم «معبودة الجماهير» (1967)، الذي جمع بينها وبين عبد الحليم حافظ. لكن تبقى علاقة سعاد حسني والمثقفين النموذج الأكبر للانقلاب الذي يعتري الموهبة الشابة، ويطور من شخصيتها وثقافتها بمجرد أن تجد لنفسها مكاناً بين زمرة المبدعين؛ فالفتاة التي حباها الله الموهبة، لكنها كانت تجهل القراءة والكتابة، وتعلمتهما على يد الفنان إبراهيم سعفان، ثم تعلمت فن الإلقاء على يد الفنانة إنعام سالوسة، صارت تتحدّث بلغتَين أجنبيتَين، وتحولت إلى بؤرة الاهتمام عقب اكتشاف الشاعر والمخرج عبد الرحمن الخميسي لها، وهي في السابعة عشرة من عمرها، لتقوم ببطولة فيلم «حسن ونعيمة»، وبعدها أصبحت «أيقونة» المثقفين والأدباء والصحافيين، الذين أفسحوا لها مكاناً في جلساتهم، وبشروا بموهبتها في كتاباتهم، وأدركت، بدورها، أهمية الدور الكبير الذي أدته الثقافة في حياتها فلم تنكر فضل الإذاعي الكبير محمد محمود شعبان «بابا شارو» والشاعر كامل الشنّاوي والأديب يوسف السباعي والكاتب الكبير إحسان عبد القدوس، وظلت التلميذة المخلصة للشاعر الكبير والفنان الشامل صلاح جاهين، الذي لم تتوقف عن النظر إليه بوصفه «الأب الروحي» لها.

هذه العلاقة الفريدة بين الممثل والمثقف تراجعت كثيراً في الآونة الأخيرة حتى يمكن القول إنها وصلت إلى درجة القطيعة، ليس فحسب على مستوى العلاقات بين الجانبين، بمعنى أن الممثل لا يتواجد مطلقاً في جلسات تجمعه والمثقفين، بل بلغت الحد الذي يندر معه أن تجد ممثلاً يُحدثك عن كتاب قرأه أو أديباً التقاه، ومن ثم لن تلتقي أبداً الممثل الذي يرى في أديب أو مبدع «الأب الروحي» له!

حالة النرجسية التي تملكت بعض الممثلين، وأدت ببعضهم إلى الشعور بأنه ندُ للمثقف، وأكثر جماهيرية منه، كانت سبباً في الإصابة بغرور مُبكر انعكس بصورة سلبية على وعي الممثل وثقافته وقراراته التي افتقدت الكثير من الموضوعية، سواء في اختياراته لأعماله الفنية أو توجهاته المستقبلية؛ فالممثل الذي نجح في اللون الكوميدي لا يغير جلده، بل إنه يسجن نفسه في الشخصية نفسها، والممثل الذي اعتاده الجمهور في «الأكشن» يكرر نفسه حتى الثمالة، والثالث الذي انتهى للتو من المشاركة في بطولة مسلسل درامي عُرض لمدة ثلاثين يوماً في شهر رمضان يُباغت الجمهور بفيلم سينمائي يُعرض في عيد الفطر، وكأنه مكتوب على الناس ألا يُبعدوا أبصارهم عنه طوال 365 يوماًّ!

تخبط وعشوائية يصيبان الممثل في مقتل، وربما ينهيان مسيرته في وقت مبكر من دون أن يعرف حقيقة الأسباب التي أدت إلى هذا المصير، بينما يستطيع بقليل من الجهد أن يُدرك أن الهوة الواسعة بينه والثقافة، والعلاقة المقطوعة بينه والمثقف، وتصرفه بنرجسية، هي السبب في ما ينتهي إليه؛ فالحصيلة الثقافية الفقيرة والخلفية السطحية والمحدودة، يقودان إلى تضاؤل الطموح وتلاشي الحلم، قوام الإبداع، ومن ثم لا يبقى للفنان سوى تكرار نفسه وابتذال موهبته والدوران في فلك «الدور الواحد» أو الشخصية التي يخشى الخروج عنها، بينما كان يستطيع بقليل من الثقة واتساع الأفق والرؤية أن يوثق العلاقة بينه وبين المثقف، ويحرص على تبادل العلاقة بينهما لمصالح مشتركة تعود بالنفع على الطرفين، وعلى الجمهور الذي سيستفيد كثيراً عندما يرى الدرر الأدبية على الشاشة، ويُصبح على قناعة أن الممثل خرج من القوقعة، وتخلص من الأنانية المفرطة... وأصبح يملك «البوصلة» التي توجهه، و»الأب الروحي» الذي يقتدي به!

back to top