في النقد الذاتي للعمل الإسلامي

نشر في 28-05-2012
آخر تحديث 28-05-2012 | 00:01
No Image Caption
 د. عبدالحميد الأنصاري على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة ظهرت مؤلفات عديدة تعنى بالنقد الذاتي للحركات الإسلامية التي تنشط في الدول العربية منذ 8 عقود من أبرزها: "الجماعات الإسلامية في ضوء الكتاب والسنة" لسليم الهلالي وزياد الدبيج، و"مع الحركة الإسلامية في الدول العربية" للدكتور عبدالله أبوعزة و"الحركة الإسلامية: رؤية مستقبلية" لمجموعة من كبار المفكرين الإسلاميين بتقديم د. النفيسي، و"نظرات في مناهج الإخوان المسلمين، دراسة نقدية إصلاحية" لأحمد سلام، و"علل التيار الإسلامي" د.عبدالرشيد صقر، و"الصحوة الإسلامية: رؤية نقدية من الداحل" لمجموعة من المفكرين الإسلاميين، و"الحركات الدينية في الخليج العربي" د. باقر النجار.

إضافة إلى ذلك هناك سلسلة من الدراسات النقدية للكاتب خليل حيدر، منها "تيارات الصحوة الإسلامية" و"الحركة الدينية حوار من الداخل" و"اعتدال أم تطرف" و"الحركات الإسلامية في الدول العربية"، والمؤلفات الخاصة بالحركات الإسلامية والديمقراطية للدكتور علي خليفة الكواري والدكتور حيدر إبراهيم، وغيرها من المؤلفات التي اهتمت بدراسة مضامين خطاب وطروحات الحركات الإسلامية المعاصرة وتحليلها ونقدها وبيان تناقضاتها.

وفي هذا السياق الفكري، يبرز كتاب مهم هو "في النقد الذاتي" للمفكر السوري خالص جلبي، داعية السلام والتسامح والأنسنة، ظهر هذا الكتاب في طبعته الأولى عام 1982 وصولاً إلى الطبعة الثامنة في مارس 2012 في 373 صفحة عن دار "مدارك" التي أصدرت سلسلة من المؤلفات النقدية التنويرية، يرى الكتاب ضرورة النقد الذاتي للحركة الإسلامية بهدف تصحيح مسارها وترشيد توجهاتها وأنسنة طروحاتها بتخليصها من كافة نزعات العنف والإقصاء والتمييز وكراهية الآخر واتهامه وتخوينه وتوظيف الدين لأغراض سياسية وتجارية، وهي نزعات مشتركة بين كافة الحركات الإسلامية المناوئة للأنظمة القائمة، إذ لا تصحيح بدون مراجعة ولا تقدم بدون تعديل، ولكن ليس أبغض على النفس من النقد ولا أحلى عسلاً من الثناء.

ويعرف المؤلف الحركة الإسلامية بأنها "كل الذين ربطوا أنفسهم مصيرياً بالعمل الإسلامي ولو لم يحملوا بطاقات حزبية"، وفي رأي المؤلف أن كارثة المسلمين الكبرى أنهم "يحيلون تردي أوضاعهم إلى قوى خارجية فلا يقومون بمراجعة للذات، وبهذا تحبط أعمالهم فلا يخرجون من حفرة الخطأ". ويطرح المؤلف تساؤلاً مهماً: لماذا عجز العمل الإسلامي عن تحقيق الهدف الذي وضعه لنفسه في صورة تغيير الواقع وتولي قيادته؟! وما هو سبب العجز؟

ويقول إن الناظر في السوق الفكري الإسلامي يرى أن الاهتمامات تصب في مديح العمل الإسلامي وليس نقده وترشيده وهي تتجه عامة نحو التزكية والثناء على ما حدث بسبب الخلط بين المبدأ الممثل في الإسلام والشخص القائم بالعمل، لأن "النقد الذاتي" غير مرحب به في الوسط الإسلامي، فهو إما تجريح وتشهير، وهذه ليست إخوة إسلامية وإما فهو اتهام، وهذا مروق في الإسلام أو هو مصطلح غربي، فلسنا بحاجة إليه!

ويبدي خالص جلبي دهشته من مفارقات الإسلاميين "ففي جو التربية الإسلامي تبنى الروح النقدية بشكل إشعاع إلى الخارج، أي إن نقد المجتمع مسموح به، وأما نقد الوسط الإسلامي، فلا"، لذلك نجد رموزاً إسلامية تستنكر نقد وقائع تاريخية أو شخصيات إسلامية وتتحامل على الناقد وتحاول اتهامه وإرهابه بمقولة "جلد الذات"، وهي كما يقول سمير عطا الله: فزاعة تأنيبية اخترعتها أنظمة تسلطية لمنع الناس من قول الحقيقة والتمادي في التخدير! ولكن هل مفهوم النقد الذاتي، يعتبر غريباً على المسلمين، لأن اللفظ لم يرد في القرآن أو الحديث أو في كتب القدماء؟!

صحيح أنه لم يرد كل ذلك، لكن مفهوم النقد الذاتي ورد في نصوص كثيرة في القرآن والحديث بمعنى: مراجعة النفس أو النشاط فردياً أو جماعياً ثم محاسبتها "ولا أقسم بالنفس اللوامة"، ويذكر الكتاب أمثلة عديدة لعمليات المراجعة الفردية والجماعية في القرآن الكريم، منها: قصة "أصحاب الجنة" الذين أرادوا حرمان المساكين فعوقبوا بإهلاك الثمر ثم اعترفوا بخطئهم ولاموا أنفسهم "فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون" و"قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين". إن موقف الاعتراف هو بداية حل المشكلة، فالمشكلة بدأت من نفوسهم ولم تبدأ من العالم الخارجي، وقصة "آدم وإبليس" حين اعترف آدم من خلال نقد الذات بخطئه فنطق هو وزوجته "قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين"، وسيدنا موسى ارتكب خطأ فقتل نفساً بغير حق، فقال "رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي"، وسيدنا يونس يذهب مغاضباً فلما وقع في بطن الحوت قال "سبحانك إني كنت من الظالمين".

ويخلص الكتاب إلى أن اتجاه اللوم الأساسي يجب أن يكون من الإنسان لنفسه وليس للعالم الخارجي المحيط به، حتى الشيطان يجب ألا يلام كما جاء في خطبته الشهيرة يوم القيامة "وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم"، وفي غزوة أُحد قال القرآن الكريم: إن سبب الهزيمة ليس الكفار بل من المسلمين "قل هو من عند أنفسكم".

ويشير المؤلف إلى "علم الجرح والتعديل"، الذي يعد منهجاً نقدياً سبق به المسلمون غيرهم "ويؤكد أن حركة النقد الذاتي تمثل ضرورة حيوية للحركة الإسلامية أكثر من أي نشاط جديد، وهذا ما رآه المؤلف قبل وصول الإسلاميين إلى السلطة، وأتصور أن حاجة الإسلاميين إلى المراجعة والتقويم- وهم اليوم في السلطة- أكثر إلحاحاً من قبل، فالأنظار مسلطة عليهم وقد يغفر البعض أخطاءهم عندما كانوا في المعارضة لكن مسؤولياتهم اليوم مضاعفة، وإذا كانوا قد دفعوا أثماناً لأخطائهم في الماضي فلا ينبغي أن يتشنجوا ويكرروا الأخطاء لأنهم سيدفعون ثمناً أعلى، وإذا كان التقدميون قد نشروا مصطلحات خاصة تبرر تصفيتهم للرفاق من أمثال: رجعي عفن، خائن وعميل، فإن جعبة الإسلاميين أجسم بل أخطر لأن التكفير سيكون السلاح المشهر على رؤوس خصومهم السياسيين.

ويؤكد المؤلف أن "العوامل الداخلية" هي الأساس لكل حدث سواء على مستوى المادة والطبيعة والنفس أو الدول والمجتمعات، لذلك فإن عملية النقد الذاتي، هي التفات إلى العامل الداخلي الجوهري الذي بعلاجه يهب الصحة ويرفع المقاومة ويقي من المرض، لكن العمل الإسلامي اهتم بخصومه أكثر من داخله، فهو رأى الصليبية والصهيونية والاستعمار والمخابرات والشيوعية العالمية، ولم يلتفت إلى نفسه، مع العلم أن جوهر القضية "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، إن القوى الخارجية يجب أن نتوقع منها كل خبث وكيد، ولكن ليس لنا عليها سيطرة إلا من خلال أنفسنا بأن نحقق فيها عدم القابلية، وقد يعترض البعض فيقول إن في النقد كشفاً للعورات للخصم المتربص، وهي مقولة تفترض في صاحبها الذكاء وفي الخصم الغباء، والذكي هو الذي يفترض في خصمه الذكاء كما أن الخصم يعرف عنّا ما يفوق معرفتنا بذاتنا أحياناً. إن النقد الذاتي مبدأ عظيم من مبادئ القرآن الكريم في صورة المراقبة والمحاسبة، ولكن لماذا النقد الذاتي؟

1- لأنه أحد مكونات العمل الثلاثة "التصور النظري + الممارسة+ النقد الذاتي". 2- لأنه يعيد ربط السبب بالنتيجة. 3- لأنه يخصب جو الحركة. 4- لأن فيه التفاتاً إلى العامل الداخلي الذي يلعب الدور الحاسم في ولادة الأحداث. 5- لأنه أداة تصحيح جانب الوعي، أي بوساطته يمكن إنشاء العقلية المنهجية.

ويخصص المؤلف بقية الكتاب للتطبيقات على منهج النقد الذاتي ويذكر منها: وهم أفضلية الرجل على المرأة كمفهوم خاطئ مستخلص من نص صحيح "وليس الذكر كالأنثى"، وأخيراً: فإن الكتاب دستور مهم في منهج النقد الذاتي، خصوصاً للإسلاميين وهم في السلطة حتى لا يصل المواطن إلى وضع بائس أكثر سوءاً من قبل، يقول فيه: "اللهم العن صناديق أتت بهم"!

* كاتب قطري

back to top