لا شيء يجرح المشاعر ويسبب المشكلات ويفسد العلاقات الإنسانية ويورث من بعد ذلك الكثير من الندم، كانفلات الأعصاب في لحظة غضب، قال فيها الإنسان ما لا يصح قوله واقترف فيها ما لا يجوز فعله. كم من مشاعر جرحت، ومصالح تعطلت، ومشاريع توقفت، وعلاقات تفصمت عراها، ونزاعات اشتعلت، بل حروب قامت، بسبب الغضب. ولا أظن أحدا منا، إلا تختزن ذاكرته مثالا أو اثنين، وربما أكثر من ذلك، لحوادث جرت في حياته أو حياة من يحب أو يعرف، كان منشؤها ودافعها الغضب الذي انفلت عن السيطرة فأصاب وجرَّح وخرَّب!

Ad

للإمام ابن القيم مقولة بديعة أحب استذكارها دوما. يقول رحمه الله: "أوثق غضبك بسلسلة الحلم، فإنه كلب إذا أُفلت أتلف".

كم هي صادقة هذه المقولة، وكم هو عميق هذا التوصيف، فالغضب حقا كلب إن أفلت نهش من حوله بلا تمييز حتى يفسد الأمور كلها، وهو في الحقيقة لا يستثني أحدا حين يفلت، بل لعل أول من ينهشه صاحبه، وإن كان الغضبان لا يشعر بذلك عندما تعميه ثورة غضبه، ولا يدركه إلا حين يعود إليه رشده وصوابه فيكتشف حجم الدمار الذي يكون قد خلَّفه!

وفي الحديث الذي روي عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: لا تغضب، ورددها مرارا، وفي رواية، لا تغضب ولك الجنة، دليل واضح على خطورة الغضب، وعلى أن أعظم خدمة يقدمها الإنسان لنفسه، ولمن حوله على السواء، أن يكون ممن يسيطرون على غضبهم، ويعرفون كيف يتعاملون مع انفلات أعصابهم، لأن الغضب جمرة في قلب ابن آدم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في خطبة له، رواها الإمام أحمد والترمذي. وهذه الجمرة إن اشتعلت ولم يسارع صاحبها لإطفائها بالحلم، أحرقت وأفسدت، وخلَّفت رمادا، ومرارة سيصعب تجرعها.

وبعض الناس يخلط بين هذه النصائح الداعية جميعها إلى السيطرة على الغضب وغيرها، مثل الحديث المعروف: ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب، وبين أن يصبح الإنسان متبلد الأحاسيس والمشاعر ومنطفئ الغيرة، فيظن أننا حين ندعو إلى الحلم والتحلم والسيطرة على الغضب، ندعو إلى ألا يستفز مشاعر الإنسان شيء وألا يتفاعل مع أي أمر، مهما كان، وهذا خلط كبير.

أحد الإخوة منذ أيام، وبعدما تحدثت كثيرا عن أهمية الحلم والسيطرة على الغضب، رد علي بالمقولة المنسوبة إلى الإمام الشافعي، رحمه الله: من استُغضب فلم يغضب فهو حمار. والصحيح أن هذه العبارة لا تعارض ما سقته من أحاديث ومقولات، فالمراد جلي وواضح. نعم، يجب أن يغضب الإنسان إن كان هناك ما يستوجب الغضب، ولكن عليه في ذات الوقت أن يظل ممسكا بزمام نفسه وقيد أعصابه، حتى لا يفقد القدرة على التركيز والتمييز والحكم.

ما نفع الدين، مثلا، من شخص، يزعم أنه يغضب غيرة لدين الله، وإذا به حين يغضب تفلت منه الكلمات والأفعال التي لا ترضي الدين وأهله؟!

إن هذا الدين دين طيب، ولا يصح نصرته إلا بكل ما هو طيب وصحيح وسليم، والله تعالى غني عن عباده، ناهيك عن أن يكون غنيا عن سوء تصرفاتهم وانفعالاتهم الطائشة في لحظات الغضب، ولو بحجة وذريعة أنها غضبة للدين ومحارم الله!

إن الحليم الحكيم المسيطر على زمام نفسه والممسك بقيد انفعالات غضبه، هو الأصفى ذهنا، والأقدر على الحكم الصحيح والإدراك السليم عندما يواجه ما يستوجب الغضب والتفاعل، وهو الأنفع لذلك للدين والدنيا، وأما الغضبان الفاقد للسيطرة على نفسه، فهو طاقة مهدرة، وجهد أخرق، يضر في الأغلب ولا ينفع.

وقد صدق الشاعر الذي قال:

لا تحسبن الحلم منك مذلة ... إنّ الحليم هو الأعز الأمنع.