مرصد نثري للعذاب

نشر في 13-12-2012
آخر تحديث 13-12-2012 | 00:01
 فوزي كريم أرى في أحيان كثيرة أن الرواية إما أن تصدر عن قلب ذكي كروايات ماريو بارغاس يوسا، على أن هذا القلب الذكي لا يغفل قيمة تحرقه. أو تصدر عن قلب محترق كروايات دوستويفسكي، ولكن هذا القلب المحترق يعتمد هيمنة روائية ليست بعيدة عن الذكاء. الرواية التي بين يدي «أشباح الوهق» صدرت عن قلب محترق بالتأكيد، لكنها افتقدت في مواطن منها هيمنة الذكاء الروائي. وسأعتبر الأمر طبيعياً، مادامت هذه الرواية أولى خطوات الروائي العراقي سليم جواد، وما دامت على هذا القدر من الضخامة، وهذا القدر من الجهد (600 صفحة كجزء أول من ثلاثية، صدرت عن دار أزمنة). الرواية وصلتني بالبريد، ولم أتعرف على هوية كاتبها حتى في سبل الانترنت.

إنها عمل مُدهش بفعل فرادة نثره: مثل حيوان «الخلد» الأعمى الذي لا يكل عن السعي تحت التربة، ينبش العتمة بمخالبه وأسنانه، وبمجسته المرهفة يكشف عن قوته ليحيا. هذا الحيوان انتخبه الألماني «شوبنهاور» في فلسفته المتشائمة، ليمثل الانسان في الكون الأعمى، الذي يكافح أبداً ليواصل العيش. فلسفة الرواية لا تقل تشاؤمية عن شوبنهاور، في حدي التشاؤم: الفيزيقي (حياة العراقي)، والميتافيزيقي حياة الانسان.

 لقد واصلتُ قراءة الرواية وأنا أغفل عن عمد الهفوات التي تحل بمنطق الأحداث هنا وهناك. لأن النثر في كل صفحة هو السيد: النثر الذي يتدفق من أتون جحيمي، شبه مرضي، نثر يحركه عُصاب: «إنه يكاد يقبض على كلمته المُبتغاة، كلمته المُنتظرة بصبر وطول خلق وأناة، لكنها وفي اللحظة التي يظن أنها أكثر مؤاتاةً لذلك تنزلق لتهرب منه، مخلفةً شعوراً حامضاً خشناً بالضآلة والعقم والغباء والسفاهة والتفاهة والصغار» ص 52. نثر «تعبيري» لا يُحسن الدعابة إلا إذا كانت سوداء، ويعتمد ترادف المفردات المفرط، التكرار، الجمل الاعتراضية التي قد تمتد إلى خمسة أسطر، الهوامش البارعة خارج المتن، الكلمة العامية حين يحتاج، والمهجورة حين يرغب.   

اسم دوستويفسكي ودانتي لا يرد عبثاً بين السطور، فكلا الكاتبين خبر عالم الانسان السُفلي، وجحيم الكائن الداخلي. وبالرغم من أن الرواية عراقية في عالمها السفلي وجحيمها، لدى جيل ولد ونشأ وشارف على يأسه وموته المبكرين تحت سلطة البعث وصدام حسين، إلا أن البعد الذي يبدو أحياناً غير تاريخي بالغ الحضور في الشخصيات المدحورة: «من هو دوستويفسكي حقاً؟ إله تحطمت أجنحته فاحتُجز في جحيم الأرض.. مُصلح كوني أُسقط بيده؟... مسيح تقطعت به السبل، فاضطر إلى تدبيج مرافعاته النارية على شكل روايات؟ أهو مبعوث رفيع المستوى، خالف إرادة باعثيه، فتُخلي عنه، فأخفق فنُبذ؟ دجال هرطيق ضُيقت عليه الدروب؟...»ص166.

الرواية مرصد نثري بالغ التأثير للعذاب العراقي. إنها تتوزع على ثلاثة أقسام، الأول يقتصر على مشهد يلي انتحار «نائل» (244 صفحة)، يجتمع فيه أبو نائل وشلة مثقفين يتأملون عبر انتحاره سحنة الحياة العراقية التي انقلبت على بنيها: (...أربعة أعوام لا وزن لها. أربعة أعوام تافهة حقيرة من عمر الوجود، يمكن أن تقلب الكون على بطانته، بطانته الأكثر قبحاً من بطانة خرج بدوي جلف في الصحراء). وعبر الخمرة التي لا تختلف عن سعي انتحاري، تقفز المجموعة من الواقع إلى الفانتازيا السوداء. تتعرى وتجوب الليل كأشباح، محاولة إرباكه على «مقرات الكتائب الحزبية»، وهي لا تتوقف عن ترداد مقطع من السياب ينتهي بـ»الليل نهارٌ مسدود».

القسم الثاني يدور حول حكاية حب متشابكة: راسم يحب رضاب، سهيلة تحب راسم، سعيد يحب سهيلة، ولكن هوى رضاب ينتقل إلى حب نائل، فيختم هذا الحب على الشبكة باللون الدامي. ينتحر راسم بسبب فشله، وينتحر نائل بسبب بتر أذنه من قبل رجال أمن البعث. ثم يأتي القسم الثالث الذي يُكرس على حب نائل لرضاب، ثم اعتقاله وانتحاره. ما من تفاصيل في الأحداث، ولكن التفاصيل في النثر الحكائي.

التاريخ مطعون ومُتهم في الرواية كلها، ولكن الانسان لا يفلت من الاتهام والطعن: «من منا لم يساهم هو ذاته، بمحض إرادته أو مدفوعاً قسراً، في معاونة المصائب، عندما تدهم حياته، لكي تتم عملها على أكمل وجه؟ من منا لمْ يُرشد المصائب إلى نقطة الضعف في كيانه؟» ص263، هامش.

back to top