يُعتبر التعاطي مع الهزيمة بأسلوب ناجح من المهارات المهمة التي يتحلى بها الدبلوماسي، ويكن المؤرخون إعجابا خاصا لرجال الدولة الذين أخرجوا بلدانهم من حروب خاسرة. من هؤلاء الأبطال التاريخيين تاليران، الذي دافع بذكاء عن مصالح فرنسا عقب سقوط نابليون، وهنري كيسنجر الذي صاغ مخرجاً للولايات المتحدة من حرب فيتنام. وبينما يفكر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في تحديات عام 2013، فقد يتساءل عما إذا كان سينجح في التعاطي مع عواقب حرب خاسرة.

Ad

الصراع السوري هو الحرب الخاسرة التي يواجهها لافروف، صحيح أن هذا الصراع حصد أرواح أكثر من 40 ألف شخص، إلا أنه لا يُضاهي بحجمه وأهميته الحروب التي ساهم تاليران وكيسنجر في إنهائها، لكنه تحوّل خلال السنة الماضية إلى اختبار بالغ الأهمية لادعاءات روسيا بأنها قوة عظمى، فقد دافع لافروف والمسؤولون الروس في الأمم المتحدة بعناد عن النظام السوري، متصدين للضغوط الغربية ومستخدمين استراتيجيات دبلوماسية ماهرة لتأخير أو عرقلة أو وقف الجهود الأميركية والأوروبية المتكررة لحلّ هذه الأزمة.

يعتقد الدبلوماسيون الغربيون أن لافروف يتّبع أجندة مناهضة للغرب رسمها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي كان يحدد، على ما يبدو، مسار السياسة الروسية في الشأن السوري حتى قبل أن يعود إلى سدة رئاسة الجمهورية الصيف الماضي. ولكن رغم مناورات لافروف الماهرة، يواجه هو وبوتين اليوم احتمال الاصطدام بخسارة دبلوماسية حاسمة. فقد تحدثت تقارير عن أن أحد كبار المسؤولين الروس حذّر أخيراً من أن الحكومة السورية "تفقد تدريجياً السيطرة" على البلد. وكما ذكرت سابقاً، يبقى السؤال الأهم اليوم: هل تلي سقوط النظام المحتم تسوية سياسية أم حالة من الفوضى؟

تصر موسكو على أن الحل الوحيد لهذا الصراع يقوم على إجراء محادثات تشمل حكومة دمشق المنهارة. صحيح أن لافروف ماهر كفاية ليعيد صياغة هذا الالتزام أو يتخلى عنه مع اقتراب النهاية، ولكن ثمة احتمال كبير أن تصبح روسيا مهمشة فيما يشق الثوار طريقهم نحو النصر.

لا شك أن هذا سيشكل كارثة لروسيا على أكثر من مستوى، ففي سورية نحو 30 ألف مواطن روسي، بينهم عدد غير محدد من المستشارين العسكريين الذين ستصبح حياتهم مهددة. كذلك يشعر بوتين ومستشاروه بالقلق حيال الروابط التي تجمع بين المجموعات الإسلامية الأصولية في سورية ومنطقة القوقاز الروسية، فضلًا عن ذلك، سيقوض الإخفاق في حماية الرئيس بشار الأسد ما تبقى لروسيا من تأثير في القوى الأخرى في الشرق الأوسط، خصوصاً إيران، كذلك لن تكون الصين، التي دعمت روسيا في الأمم المتحدة، راضية.

لا يشكل هذا السقوط المحتمل مصدر قلق لصناع السياسات الروس فحسب، فمنذ بداية الأزمة السورية، أمل المسؤولون الأميركيون إيجاد حل يُرضي موسكو، فهم يشاطرون روسيا مخاوفها من الفصائل الإسلامية الفاعلة في سورية، ولا يرغبون في تعقيد التعاون الدبلوماسي الصعب أساساً مع إيران. ومع أن الدبلوماسيين الأميركيين والروس تبادلوا الكثير من الكلمات الجارحة علانية في الأمم المتحدة، بذلت الولايات المتحدة في السرّ قصارى جهدها لتتوصل إلى قواسم مشتركة مع روسيا. ولربما فسرت موسكو هذه الاستراتيجية المزدوجة على أنها دليل ضعف الولايات المتحدة.

يصعب على الروس اليوم تبديل مسارهم وتبني مقاربة جديدة إلى الشأن السوري قبل سقوط الأسد، فضلًا عن أن التخلي عن صديق مقرب سيُلحق الضرر بمصداقية روسيا الدبلوماسية. ومع أن قادة المعارضة السورية زاروا روسيا، إلا أنه ما من مرشح واضح ليضطلع بدور "رجل موسكو" في سورية ما بعد الأسد، فأي شخصية سياسية يرتبط اسمها بروسيا قد لن تصمد طويلًا في دمشق.

رغم ذلك، تحتاج روسيا إلى استراتيجية فاعلة لتحد من الضرر الذي قد يلحق بمصالحها عقب سقوط الأسد، فكما ذكرت سابقاً، قد تحاول موسكو الاحتفاظ بوجود لها في سورية بمشاركتها في قوات حفظ سلام دولية، لكن هذه القوات قد تصبح بدورها هدفاً. لذلك تقتضي الوسيلة الفضلى لضمان أمن المواطنين الروس في سورية طلب العون من بعض داعمي المعارضة الدوليين، أمثال فرنسا والمملكة المتحدة وتركيا، لحض الثوار على عدم تنفيذ هجمات تستهدف مواطنيها.

 أما إذا كان همّ الكرملين الأول ضمان عدم مساعدة الإسلاميين السوريين حلفاءهم في روسيا بحد ذاتها، فقد يكون من الممكن عقد اتفاقات سرية مع الولايات المتحدة وغيرها من القوى المعنية لتفادي هذا الخطر.

فضلًا عن محاولات الحد من الأضرار، يحتاج لافروف وبوتين إلى التفكير بشكل أشمل في طرق دفاع روسيا عن ادعائها الواهي بأنها قوة عظمى بعد هزيمة عملائها السوريين. فقد يعزو بوتين سقوط الأسد إلى مؤامرة غربية هدفها إضعاف روسيا. وهذا خطر بالتأكيد لأنه سيجعل بوتين أكثر عدائية. وأمام الرئيس الروسي طرق عدة للتعبير عن استيائه، بدءاً من خفض التعاون مع حلف شمال الأطلسي في أفغانستان وصولاً إلى استخدام رئاسة روسيا لمجموعة العشرين لتوجيه الانتقادات إلى نظرائها الأوروبيين علانية.

ولكن يتوافر أمام روسيا اليوم مسار أحداث قد يكون أفضل، نظرياً على الأقل، فبعد مراهنة روسيا على نتيجة الصراع السوري وخسارتها، تستطيع أن تثبت دورها كلاعب دبلوماسي له ثقله على جبهات عدة. تشمل هذه الأخيرة التخطيط لنشر الاستقرار في أفغانستان بعد انسحاب حلف شمال الأطلسي عام 2014، والتفاوض مع إدارة أوباما على صفقة ثانية لخفض الأسلحة النووية لمواصلة العمل بمعاهدة ستارت الجديدة (2010)، ومحاولة إبقاء الدبلوماسية النووية المتعددة الأطراف مع إيران حية.

لا شك أن دبلوماسياً مخضرماً مثل لافروف سيرى أن هذه المبادرات معاً تبرز أهمية روسيا واستمرارها كدولة عظمى. علاوة على ذلك، أولت إدارة أوباما اهتماماً كبيراً "لإعادة ضبط العلاقات" مع روسيا قبل العام المنصرم، وقد توافق الإدارة على إعداد رزمة من الأفكار للتعاون مع موسكو بهدف التخفيف من وطأة هزيمتها في سورية، ولكن لم يتضح بعد ما إذا كان بوتين سيقبل بهذه اللعبة. فقد يكون الموقف المناهض للغرب أسهل في نظره، وإذا صح ذلك، فقد ينتهي المطاف بروسيا إلى معالجة هزيمتها الوشيكة في سورية بالسوء عينه الذي تعاطت به مع الحرب بحد ذاتها.

* ريتشارد غوان | Richard Gowan
وورلد بوليتيكس ريفيو