في روما عاصمة إيطاليا الحديثة وعاصمة الإمبراطورية الرومانية القديمة، مهد حضارة الرومان وآثارهم الباقية، الحاضنة لدولة الفاتيكان، أصغر دولة مستقلة، مقر البابوية ومركز الكاثوليكية ومحج الأتباع ومقصد الـ5 ملايين سائح سنوياً.

Ad

 في هذه المدينة الساحرة ذات الثلاثة ملايين نسمة والآثار العظيمة وفي الجامعة (Pantipicia Universita della Santa Croce)  بالقرب من نهر "تيبر" المنساب وسط روما و"البانتيون" أعظم آثار الرومان، التقى نفر من المصلحين العرب بنظرائهم الغربيين والأميركيين، وأجروا حواراً مثمراً حول العقلانية والإصلاح في الإسلام (7-8 ديسمبر) كان الراعي والداعي لهذا اللقاء، الباحث البريطاني د. ستيفن أولف، المتبني لمشروع الإصلاح في الإسلام عبر ترجمة مقالات المصلحين العرب للإنكليزية ونشرها في موقعه (Al muslih.org ) ساعياً إلى إسماع مثقفي الغرب أصوات المصلحين العرب بهدف تفكيك الصورة النمطية في الذهنية الغربية عن العرب والمسلمين من أنهم عصيون على الإصلاح.

 يؤمن صاحب المشروع ستيفن بالإصلاح الإسلامي ويراهن على جهود المصلحين العرب، ويسعى إلى دعمها وإبرازها في الساحة الغربية، مفنداً ظنون الغربيين من أن الساحة العربية محتلة من متشددين وسلفيين وإخوان مسلمين، يريد إيصال رسالة المثقفين العرب الذين يجاهدون في الساحة من أجل الحداثة والتنوير، وأنهم أولى بالدعم، إذا أراد الغرب الإصلاح العربي، وهذه هي رسالة الندوة، إيصال أصوات المصلحين العرب إلى الغرب، وتصحيح الصورة المشوهة، وبيان خرافة صدام الحضارات، وأوهام عدائية الغرب للإسلام لقطع الطريق على دعاة التصادم في الجانبين. وإنه لمما يدعو إلى الاعتزاز حرص المنظمين على أن تكون لغة الحوار بالعربية وفي هذه الجامعة الدينية العريقة، شارك من الجانب العربي: العفيف الأخضر، شاكر النابلسي، هاشم صالح، أشرف عبدالقادر، كامل النجار، رجاء بن سلامة، وكاتب هذه السطور، ومن الجانب الغربي: سباستيان غوركا، كاترين غوركا، روبرت رايلي، إيفان وليمز، توني عساف، داني كمب، الأب وفيق نصري، كيشور جايابالان، وأدار الحوار بمهنية عالية ستيفن أولف.

 حققت الندوة نجاحاً فاق كل التصورات طبقاً لهاشم صالح، وفي صبيحة ذلك اليوم المطير افتتحت الندوة بتساؤلات مهمة طرحها سباستيان من جامعة الدفاع الوطني الأميركي، وطلب من الحضور الإجابة عنها: ما تصورنا لعملية الإصلاح؟ ما العناصر المعوقة وكيف يمكن تجاوزها؟ هل هناك توافق بين المصلحين العرب على طبيعة الإصلاح؟ يتفهم الغرب معوقات المصلحين العرب، فما نوع الدعم المطلوب من الغربيين؟ وما السبل العملية لتحقيقه؟

كانت البداية مع ورقة شاكر النابلسي: الإصلاح الإسلامي... العقبات والفرص، فقال: إن من يعتقدون أن ما حصل في الغرب يمكن حصوله في الشرق، على خطأ كبير، لأنه- بحسب تصوره- لا مجال للمقارنة بين حركات التنوير الغربي وما يحصل اليوم في الساحة العربية وذلك لعدة عوامل:

 1- الأوضاع الاجتماعية والثقافية والسياسية معوقات كبرى.

 2- المسيحية غير الإسلام.

 3- الحداثة بحاجة إلى سلطان، والله يزع بالسلطان أكثر ما يزع بالقرآن، ولا سلطان للحداثة.

4- الساحة محتلة من إسلاميين مهيمنين على المساجد والمنابر والفضائيات وكل الوسائل في خدمتهم والسلطة السياسية بجانبهم.

 5- الإصلاح بحاجة إلى مجتمع صناعي لا مجتمع زراعي قدري.

 6- الأمية كبيرة.

 7- التعليم يعكس ما هو قائم.

 8- لا توجد قاعدة اجتماعية وثقافية للإصلاح، الورقة قدمت رؤية تشاؤمية.

 عقبت على مقولة: الحداثة بحاجة إلى سلطان كما فعل أتاتورك وبورقيبة وعبدالناصر. وقلت: المراهنة على السلطان في فرض الإصلاح، مغامرة غير مأمونة، يزول بزواله، وهو ما يحصل اليوم، فإرث أتاتورك يفكك ببطء وبورقبية في محنة والناصرية إلى زوال، الإصلاح يبدأ بالقاعدة المجتمعية لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

 وأيدني سباستيان مؤكداً أن الإصلاح يجب أن يمد جذوره في العمق المجتمعي صعوداً للأعلى، وعقب العفيف الأخضر معترضاً بقوله إن الثورة نخبوية لا جماهيرية، وأن من قاموا بالثورة الفرنسية 250 شخصاً، وحركة التنوير قام بها 100 شخص لو تم اغتيالهم ما قام التنوير، وأن المطلوب تحويل أفكار المصلحين إلى تشريعات على يد من سماهم ملوك التنوير مثل بورقيبة الذي تبنى أفكار الحداد في "امرأتنا في الشريعة والمجتمع"، وضمنها مجلة الأحوال الشخصية 1965.

 ونأتي إلى ورقة عبدالخالق حسين المفكر العراقي المهاجر إلى بريطانيا في السبعينيات من ظلم الحكم وبؤس الأوضاع، قدم ورقة مهمة لإيقاظ الغرب من غفلتهم تجاه مخاطر الإسلام السياسي، وانتقد تساهلهم مع الأصوليين الذين استغلوا الحريات لزرع التطرف في عقول أبناء الجاليات الإسلامية، واستشهد بالامتيازات الممنوحة للأصوليين، وعجز الحكومة البريطانية عن التصرف، محذراً من مصير كارثي للمسلمين في أوروبا. وقال: نحن الليبراليين لا مشكلة لنا مع الإسلام، ولكن مشكلتنا مع الإسلام السياسي الذي يحكم باسم الإله، ويريد فرض رؤاه، نريد إنقاذ الإسلام والحضارة منهم.

 عقبت منتقداً تساهل التشريعات الغربية مع المجرمين لحد "التدليل"، فسفاح أوسلو "بريفك" ارتكب مجزرة وقتل 76 نرويجياً بدم بارد متباهياً بأنه يريد إنقاذ أوروبا من المسلمين، ومع ذلك حكم عليه حكم مخفف!

وجاء دور هاشم صالح ليحدثنا عن تجربته الشخصية مع التنوير، إذ استشعر نذر المخاطر بعد الثورة الخمينية واشتداد الصرع الديني، فقرر الهجرة من بلده سورية إلى باريس لاستكمال دراسته 1979 وتعرف هناك على أركون وتتلمذ عليه، ثم أصبح مترجماً لكتبه، وعرف العالم العربي به، وهو اليوم رمز من رموز التنوير العربي بمساهماته الثرية، شرح تكتيكه في نشر التنوير في حلين: الداخلي؛ بإبراز العناصر المستنيرة في التراث لمواجهة العناصر المظلمة، والخارجي؛ ترجمة التنوير الغربي إلى العالم العربي.

 وعن تساؤل سباستيان: كيف يساعد الغرب الإصلاح العربي؟ حدد هاشم 3 أمور:

 1- منع المتطرفين الغربيين من استفزاز المسلمين بإهانة الرموز الدينية (الأنبياء) وأيد إصدار قرار أممي بمنع الإساءة إلى الأديان، فالاستفزازات المجانية لا تخدم دعاة الإصلاح، بل تخدم دعاة التصادم، في المقابل على الغرب مطالبة المسلمين منع خطبائهم من الإساءة إلى أديان الآخرين.

 2- دعم الإصلاح بقيام الغرب بتشجيع الدول البترولية لمساعدة الدول غير البترولية عبر مشروع مارشال عربي لأن نجاح الإصلاح مرتبط بتحسين الأوضاع الاقتصادية.

 3- على الغرب مساندة القوى المستنيرة بفتح معاهد لتدريس الإسلام لأبناء الجاليات وفق منهج عقلاني حديث كما فعلت فرنسا مؤخراً.

اعترض عدد من الحضور على  إصدار قرار أممي بمنع الإساءة إلى الأديان خشية استغلاله في التضييق على حرية التعبير، أكبر وأهم حقوق الإنسان، وقالوا: لا ينبغي للعالم أن يتنازل للمسلمين بل عليهم أن يكونوا راشدين يتعلمون اللا مبالاة كالغربيين، وتدخل سباستيان متسائلاً: هل إهانة المسيح أو غيره من الأنبياء حق إنساني؟ قالت رجاء: التشريعات الغربية تجرم إهانة الأحياء لا الأموات! فقلت إن الثقافة الشرقية قد تتسامح في ذلك مع الأحياء، ولكن لا تتسامح مع إهانة الأموات، ثم إن الأنبياء أحياء في نفوس أتباعهم فهل من حق ثقافة الغرب أن تفرض قيمها على ثقافات الآخرين؟! وأي عقلانية أو تنوير في استفزاز مليار ونصف مسلم؟ وكيف يطلب من المسلمين أن يكونوا لا مبالين؟

 وبدت رجاء في ورقتها متحدية الإسلاميين أن يمسوا مكتسبات المرأة التونسية؛ مراهنة على قوى العلمنة والعولمة والتثقيف لمصلحة المرأة، ورأت في خروجها للعمل واقعاً مادياً مؤثراً بأكثر من جهود المصلحين، إذ أسقط قوامة الرجل نهائياً، وطالبت الغرب بالحياد وعدم دعم الإسلاميين قائلة: نحن سنتكفل بهم، ورأيت في أحكامها تعميماً ينقضه واقع المرأة في مجتمعاتنا إلا تونس، فالقوامة قائمة وحقوق المرأة منتقصة.

 أوراق مهمة أخرى للعفيفي والنجار وعبدالقادر وورقتي، لا يتسع المقال لها، ويبقى أن نقول لا عجب أن ننشد الإصلاح الإسلامي في روما فقد عقد في باريس 2003 لقاء ضم 50 مفكراً عربياً برعاية مركز القاهرة لحقوق الإنسان، وأصدر "إعلان باريس" لتجديد الخطاب الديني، ويعد من أهم إعلانات الإصلاح الديني.

 * كاتب وباحث قطري