هناك ناخب يعتقد أن الثورة أدخلت مصر في نفق مظلم، ويريد عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه، ولا يحفل بمشكلات الفساد وتراكم الهدر وسوء توزيع عوائد النمو الاقتصادي، ويعتقد أن العيش تحت حكم فاسد وصارم، أفضل من العيش في عدل وديمقراطية مع انفلات أمني وفوضى وتراجع اقتصادي. هذا الناخب سيمنح صوته لعمرو موسى أو أحمدشفيق.

Ad

يبدو المشهد في الانتخابات الرئاسية المصرية معقداً بسبب الزيادة الكبيرة في عدد المرشحين، الذين يعتقد أن بينهم أصحاب حظوظ حقيقية في المنافسة، وهو أمر لم يعتد عليه المصريون طوال تاريخهم الممتد لآلاف السنين، حيث كان الشعب يُبلغ عادة باسم الحاكم، دون أن تكون لديه أدنى قدرة على اختياره.

تلك أول انتخابات تنافسية حقيقية تشهدها مصر عبر تاريخها؛ لذلك، فإن السؤال المتكرر الذي لا يكف المصريون عن طرحه لحظة واحدة ليس سوى جملة واحدة من كلمتين تسمعها في اليوم الواحد مرات عديدة: "هتنتخب مين؟".

ثمة 13 مرشحاً في تلك الانتخابات، يمكن تقسيمهم من نواحي متعددة، لكن من جهة الحظوظ التنافسية يمكن القول إن التنافس ينحصر بين خمسة فقط منهم.

حسب استطلاعات الرأي المتواترة، والتي يتحلى بعضها بقدر من الاعتبار؛ فإن عمرو موسى وعبد المنعم أبو الفتوح يتنافسان بضراوة على المركز الأول، ويستأثران بالنسبة الأغلب من ترشيحات المستطلعة آراؤهم. وفي المرتبة التالية لهما مباشرة يظهر أحمد شفيق ثم محمد مرسي وحمدين صباحي.

هؤلاء الخمسة يحتلون رأس القائمة عادة في الاستطلاعات الجدية المختلفة، بينما تتباين مواقعهم بشكل محدود بحسب حجم عينة الاستطلاع أو طريقة إجرائه أو اسم الجهة المشرفة عليه، في وقت تبدو فيه حظوظ المرشحين الثمانية الآخرين شبه منعدمة، رغم أن بينهم قامة فكرية مميزة مثل سليم العوا، ورجل أمن ذا خبرة رفيعة مثل حسام خير الله، أو قاضياً مرموقاً من أقطاب ثورة يناير مثل هشام البسطويسي، أو دبلوماسياً بارزاً مثل عبد الله الأشعل، أو معارضاً معروفاً مثل أبو العز الحريري، أو ثورياً تقدمياً مثل خالد علي.

تفيد الإحصاءات الرسمية أن عدد الناخبين المصريين في تلك الانتخابات يناهز 53 مليوناً، ولكن محاولة قراءة توجهات هؤلاء الناخبين، والتعرف إلى الطريقة التي يمكن أن تؤثر في قراراتهم التصويتية يمكن أن تختصر هذا العدد كثيراً، لتجعله على الأرجح ثلاثة ناخبين.

يبدو أن تلك الانتخابات ستحسم فعلاً في ظل وجود 13 مرشحاً وثلاثة ناخبين فقط، حيث يمثل هؤلاء الناخبون الثلاثة إجمالي أعداد المتمتعين بحق التصويت والتوجهات العامة الرئيسة بينهم.

الناخب الأول في الانتخابات الرئاسية المصرية هو هذا المواطن الذي كان مناصراً لمبارك أو راضياً عن الطريقة التي أدار بها البلاد. وهو أيضاً من هؤلاء الذين لم يحبوا ثورة يناير، ولم يفهموا إصرارها على إطاحة الرئيس السابق، وعدم إعطائه الفرصة للإصلاح. هذا الناخب يعتقد أن الثورة أدخلت مصر في نفق مظلم، وهددت أمنها القومي، وأصابتها بالانفلات الأمني، وأغرقتها في أزمة مالية، وفتحت الباب لأصحاب الاتجاهات المتطرفة للوصول إلى المؤسسات الدستورية. هذا الناخب يريد عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه، بحيث يرجع الانضباط الأمني، وتدور عجلة الاقتصاد، وهو لا يحفل بمشكلات الفساد وتراكم الهدر وسوء توزيع عوائد النمو الاقتصادي، ويعتقد أن العيش تحت حكم فاسد وصارم، أفضل من العيش في عدل وديمقراطية مع انفلات أمني وفوضى وتراجع اقتصادي. أو هو أحد الذين أمنوا بالثورة وانفعلوا بها واستبشروا خيراً، لكنهم ذهلوا وأصيبوا بالإحباط بسبب الأداء المتدني للنخبة، وتكالب القوى السياسية على تحقيق المكاسب الخاصة، وحصيلة الانتخابات البرلمانية "غير المزورة"، التي خلقت برلماناً "مشوهاً وظلامياً" من وجهة نظره. هذا الناخب سيمنح صوته إلى عمرو موسى أو أحمد شفيق.

الناخب الثاني ذو أيديولوجية واضحة، فهو يعتقد أن "الإسلام دين ودولة"، ويرى أن سبب مشكلات البلاد وتراجعها الكبير ليس إلا "عدم تمسكها بصحيح الدين والبعد عن تطبيق شريعة الله". هذا الناخب كان موجوداً في الانتخابات البرلمانية السابقة، وهو الذي منح حزبي "الحرية والعدالة" الإخواني، و"النور" السلفي نحو ثلثي مقاعد البرلمان. يعتقد هذا الناخب أن حل مشكلات مصر في تطبيق الشريعة، وقد زار السعودية، أو عرف، أن أبناءها يتمتعون بمستوى اقتصادي جيد مقارنة بمصر، كما سمع أن تركيا باتت "دولة متقدمة" لأن "حزباً إسلاميا يحكمها"، أو حصل على أنبوبة "بوتاجاز" من أعضاء الجماعات السلفية، أو مساعدات عينية من أعضاء في "الإخوان"، أو سمع خطيب الجمعة في المسجد المجاور لمنزله يقول "اجعل صوتك لنصرة الإسلام... انتخب من يطبق شرع الله". هذا الناخب سيعطي صوته إلى عبد المنعم أبوالفتوح أو محمد مرسي.

الناخب الثالث هو ابن الثورة الذي شارك فيها وعرض حياته للخطر، أو تعاطف معها وأيدها بكل جوارحه، أو آمن بأهدافها ومطالبها.

الناخب الثالث صاغ أو ردد أو سمع شعارات الثورة: "عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية"، وقد آمن بها، وعرف أن مصر تستحق أن يحظى أبناؤها بالخبز والحرية والكرامة في آن. وهو غير قادر على تفهم كيف يمكن أن يُعطى أحد أعضاء نظام ساقط وخاسر فرصة ثانية لكي يصلح ما أفسده نظامه، كما أنه لا يقبل أن تُحكم بلاده بطريقة تميز بين مواطنيها، وتهدر حقوقهم الأساسية. الناخب الثالث يعتقد أن انتخاب أي من أعضاء النظام السابق خيانة للثورة ودماء الشهداء، ويرى أن "الإسلام السياسي" لم يكن صادقاً مع الثورة منذ اللحظة الأولى، وأنه لم ينضم إليها بشكل كامل إلا عندما ظهرت دلائل واضحة على نجاحها. يأخذ الناخب الثالث على "الإسلام السياسي" ميله إلى الشكل على حساب المضمون، ويرصد تجربة "الإخوان المسلمين" و"السلفيين" في البرلمان بعد هيمنتهم عليه، فيشعر بقلق عميق، وهو يريد أن ينتخب مرشحاً يمثل الثورة ويحقق أهدافها التي لا يوجد خلاف عليها. هذا الناخب سيصوت لمصلحة حمدين صباحي.

يوجد بلا شك بين الناخبين المصريين من سينتخب سليم العوا لأنه مؤمن بقدرته على قيادة الدولة أو معجب بعلمه وسعة اطلاعه، وبينهم أيضاً من سيدلي بصوته لمصلحة أبو العز الحريري لأنه معجب بمسيرته النضالية وقدرته على البقاء ممسكاً بجمر المعارضة في ظل نظام مبارك الاستبدادي، أو من سيؤيد خالد علي لأنه صاحب رؤية واضحة وخطاب متماسك، أو من سيعطي محمد عيسى لأنه قريبه أو أحد أبناء قريته، لكن تلك الأصوات لن تغير من الأمر شيئاً، ولن تؤثر في حظوظ المتنافسين الرئيسيين.

على كل مصري سيتوجه ليدلي بصوته في هذه الانتخابات أن يعرف أسماء المرشحين الـ13 ويحدد هويتهم، قبل أن يحدد موقعه بين الناخبين الثلاثة، ليختار بين النظام السابق، و"الإسلام السياسي"، و"ثورة يناير" بمبادئها وأهدافها الواضحة، التي أُعلنت في اليوم الذي انطلقت فيه شرارتها الأولى.

* كاتب مصري