تقضي هذه الديمقراطية على؛ أن المواطن حر في أن يقول ما يشاء ويعترض على من يشاء وفي أي وقت يشاء، ولكن بالمقابل فإن الحكومة أو النظام السياسي القائم أيضا حر في ألا يستمع إليه ولا يستجيب لمطالبه كما يشاء وبالطريقة التي تشاء!
لدينا في كردستان العراق تجربة ديمقراطية فريدة من نوعها، لا تشبه أيا من الديمقراطيات السائدة في العالم، ولا توجد لها صورة مماثلة في الدول المجاورة، ولا حتى في بلاد الواقواق، ترسخت جذور هذه الديمقراطية في المجتمع، وأصبحت تقليدا سياسيا متوارثا يمارسه النظام السياسي الحاكم لمدة تزيد على عشرين عاما، ونجح إلى حد ما في الترويج لها على أنها الديمقراطية المثالية الأصلح لإدارة المجتمعات في المنطقة. تقضي هذه الديمقراطية على؛ أن المواطن حر في أن يقول ما يشاء ويعترض على من يشاء وفي أي وقت يشاء، ولكن بالمقابل فإن الحكومة أو النظام السياسي القائم أيضا حر في ألا يستمع إليه ولا يستجيب لمطالبه كما يشاء وبالطريقة التي تشاء! يعني من حقك كمواطن أن تنتقد السلطة بقدر ما تستطيع وبالشكل الذي تريده وهي بدورها حرة في أن تتجاهلك (بكل برود) ولا تعير لك ولرأيك وزنا، بل تعتبر وجودك كعدمك. بإمكانك بكل بساطة أن تنزل إلى الشارع في وسط أي مدينة من مدن كردستان، وتبدأ بالصراخ (إلى أن تتقطع أنفاسك) منتقدا الحكومة ومؤسساتها وسياساتها وأهدافها من دون أن يعترض طريقك أو يمسك أحد بسوء ما دمت تتحرك ضمن الدائرة الضيقة لهذه الديمقراطية التي وضعت لك. حاول الكثيرون أن يتصدوا لهذا النهج السياسي الخاطئ الذي كان السبب الأساسي في انتشار الفساد وتراكمه في دوائر الدولة، ولكن محاولاتهم ذهبت أدراج الرياح، لأن العلة ليست في الفساد نفسه بل العلة في الآلية التي تنتج ذلك الفساد، فالنظام السياسي القائم على أساس الحزبية والمحاصصة والتوافقات السياسية «الضيقة» وتجاهله المستمر لدعوات المعارضة التي تنادي بالإصلاح، ومحاولته التشكيك في مصداقيتها وإظهارها بمظهر المعادي للتجربة الوليدة لم يعد ينسجم مع مستلزمات العصر، ولم يعد صالحا لإدارة الإنسان المعاصر، فهو بحاجة إلى تغيير جذري يشمل جوانب مهمة من بنيانه الأساسي. وفي ظل غياب المشروع السياسي البديل وتدهور العلاقة بين السلطة والمعارضة، وغياب الهدف المشترك بينهما، وعدم وجود خطة متكاملة ومعالم واضحة لخارطة طريق للخروج من الأزمة الراهنة، فإن الظواهر السلبية ستبقى تنخر دعائم المجتمع وتوقف نموه الطبيعي بمرور الوقت، وتصيبه بكل أنواع الأمراض المستعصية. القوى المعارضة قالت الكثير واعترضت على أمور جوهرية، ولكن ما من مجيب، الحكومة في واد وهم في واد آخر «وكأنهم ينفخون في قربة مخرومة»، الطرفان بأمس الحاجة اليوم إلى تعلم فن الإصغاء الذي هو جزء لا يتجزأ من السياسة، فكل ما جرى لنا ويجري من أزمات سياسية واجتماعية كان سببه عدم الإلمام بهذا الفن الراقي الذي أنشئت له في أوروبا وأميركا نواد «لشحذ ملكة الإصغاء والاستماع لدى المنتسبين إليها»، فمن دونه يظل الحوار بين الطرفين المتخاصمين «حوار طرشان» ولا يؤدي إلى نتيجة تذكر كما هي الحال اليوم. * كاتب عراقي
مقالات
ديمقراطية من طراز خاص
11-08-2012