صرخة لمن يهمه الأمر!
حين يزورني أصدقاء وضيوف، عرب وأجانب، كتّاب وفنانون ومعماريون وتشكيليون وإعلاميون وصحافيون، ويطلبون مني اصطحابهم في جولة للتعرف على مدينة الكويت، تتملكني حيرة مُربكة، ويتسرب شيء من الحزن إلى قلبي. فأين تراني أصطحب ضيوفي؟ وأي معلم تاريخي أو معماري أو سياحي يمثّل روح الكويت، ويستحق أن يبقى في ذاكرة الزائر؟ ويأخذ الطلب بعداً آخر، حين يأتي بصيغة: "نودّ رؤية شيء من كويت الماضي".نتيجة قرارات، شاركت فيها أكثر من جهة حكومية، وكانت تفتقر إلى الحكمة والرؤية الثاقبة، تاريخياً ومعمارياً واجتماعياً، أزيلت منذ منتصف الستينيات وحتى منتصف السبعينيات من القرن الماضي، جميع أحياء مدينة الكويت القديمة، وتحديداً في منطقتي "شرق والقبلة"، وطمست بذلك حياة وهوية مجتمع بأكمله. وتُركت تلك الأراضي قاعاً صفصفا، شاهداً صامتاً وحزيناً على حياة عامرة كانت تضج بها المدينة!
إن رئة الكويت الأهم والأجمل، وأعني بذلك شاطئ البحر، اختفى لتحل محله أسواق ومطاعم بائسة، ولتنتهي بذلك علاقة مهمة بين أبناء الكويت وبين البحر، فحين غاب البحر عن لقاء العين، غاب عن القلب وعن الخاطر، وتربت أجيال، لا تعرف من البحر إلا الاسم! علماً بان جميع دول العالم، تتخذ من الضفة المحاذية للبحر "الكورنيش"، بيئة جميلة تفاخر بها، وتجهد كي تجعل منها وجها باسماً ومتفرداً لبلدانها.للوهلة الأولى يبدو تعبير "مدينة الكويت- العاصمة" على أرض الواقع، ملتبساً وغير واضح المعالم، وبحاجة جادة لدراسته والوقوف عنده. فلا بقايا السور مصانة ومفتوحة للزائر بشكل مدروس وموثق، ولا بواباته الخمس بارزة وحاضرة بما يمكّن الزائر من معاينتها والتمتع بها. وباستثناء الدواوين الكويتية القليلة المتبقية على شارع الخليج، والتي تمسكت بها عوائلها لتبقى شاهداً على زمن ماضٍ، لكان اندثر كل ما يمت بصلة إلى كويت ما قبل النفط. لكن حتى هذه الدواوين على ترحيب أصحابها الحار بالضيف، ليست معدة للزائر، فليس هناك كتيبات تتحدث عن تاريخها، ولا أي بطاقات معايدة تحفظ صورتها الجميلة، والتي هي بالضرورة صور عن الكويت. إن الحاضر هو امتداد للماضي، والمستقبل يتشكل في حدث ورحم اليوم الراهن، وفي ظل عولمة طاحنة وقادرة على تغريب أكثر الشعوب وصلا واتصالاً بماضيها، يصبح من الضروري الانتباه لرسم صورة دالة لمدينة الكويت؛ صورة ترتبط بالمحطات الأهم لتاريخ المدينة، وتبرز بشكل ملموس حياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وإلا فسيأتي زمن، وهو موجود بيننا، لن يبقى من مدينة الكويت القديمة، إلا الاسم الباهت الخالي من أي معنى ملموس للحياة.إننا أمام مهمة تاريخية كبيرة وملحة، في إعادة النظر إلى المنطقة الساحلية المحصورة بين "قصر السلام" في منطقة "الشويخ"، وقصر "دسمان" في منطقة "شرق" والتفكير الجدي في كيفية إعادة رونق الحياة إليها، لتقدم صورة بهية عن كويت الماضي، وصلته الوطيدة بكويت اليوم.أعرف تماماً أن مقتل أي فكرة القول: "لنشكل لجنة" أو "فريق عمل" ولكن إذا كان لابدَّ مما ليس منه بد فمن الضروري تشكيل فريق عمل كويتي، من مؤرخين وكتّاب وأصحاب حرف ومعماريين وفنانين تشكيليين، لوضع تصور لمدينة الكويت التي نواجه بها العالم؛ ساحل البحر، والفريج، والفرضة، والسوق الداخلي، والصفاة، والقلاليف، وكل ما يتصل بحياة الناس قبل تشكّل مدينة الكويت الحديثة، يجب أن يكون حاضراً في ذهن فريق العمل، وأن يُترجم بشكل عصري وعملي ليحفظ للكويت تاريخها وجزءاً من نبض حياتها الماضية.لا أعرف لمن أوجه رسالتي وصرختي بألمي، للديوان الأميري، لمجلس الوزراء، لوزارة الإعلام، للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، لذا أرسلها مفتوحة، وعلها صرخة لا تضيع في الفضاء!