الحسابات الآن سياسية لا قانونية!
كنت أرسلت مقالي السابق والذي جاء بعنوان "كيف يكون رفع السقف حقا" إلى الجريدة صباح الاثنين كي ينشر في اليوم التالي كالعادة، وذكرت فيه أن احتمالات تمدد الحراك الشعبي مفتوحة في كل الاتجاهات، وبالفعل وفي ذات المساء كانت تظاهرة ساحة الإرادة التي امتازت بخطابات عالية السقف جدا، أبرزها كان خطاب مسلم البراك الذي تجاوز كل التوقعات. والواضح الآن أن الأمور بالفعل تتجه نحو مواجهات أشد ضراوة، فقانون الانتخاب سيتم تغييره في الغالب، كما اتضح ذلك من خطاب سمو أمير البلاد أمس الأول، والذي توالت بعده تصريحات مقاطعة الانتخابات ترشحا وتصويتا من قبل مختلف القوى والتيارات والفعاليات والنواب السابقين والمرشحين وغيرهم، والحديث الدائر حاليا هو عن خروج مسيرات ضخمة على إثر ذلك كخطوة جديدة من خطوات الرفض التي ستأتي متتابعة.
وقد كنت بالأمس في حوار مع أحد الأصدقاء حول توقعات ما سيكون، فاتفقنا أن هذه المسيرات من الناحية القانونية غير سليمة غالبا لمخالفتها للقانون الصريح بهذا الشأن، حتى إن كان هناك من يشكك في دستورية ذلك القانون، فعدم دستورية أي قانون لا يعطي أي مسوغ لكسره أو تجاوزه مباشرة، إنما حسبه أنه الحجة للاعتراض عليه عبر قنوات التخاصم القانونية، ولكن في المقابل وصلنا إلى أن النزاع السياسي اليوم قد تجاوز خط الاحتكام للدستور والقانون، فكل طرف من الأطراف قد صار يرى أن الطرف الآخر هو أول من تجاوز الدستور والقانون، فأعطاه في النتيجة الحق في ارتكاب ذلك أيضا، وبالتالي فالمسألة قد تعدت هذا الخط كثيرا. نحن الآن في مرحلة الحسابات السياسية لا القانونية، والمقصود بهذا الكلام أن على كل طرف أن يحسب الأمور على الميزان السياسي من باب نتائجها وتأثيراتها في مسار ما يجري، ومآلاته لا على الميزان القانوني الذي ما عاد يكترث به أحد وللأسف. مسيرة "كرامة وطن" كما أسماها منظموها، ما هي إلا خطوة من خطوات التصعيد والمواجهة، وهذه الخطوة ستنتهي بانتهاء يومها المقرر إن هي تمت على ما خطط لها أن تكون مسيرة سلمية تتحرك من نقاط محددة إلى نقطة واحدة معينة. وبعدها سيكون الحراك الشعبي في مواجهة السؤال البدهي: وماذا بعد؟ هذا إن تمت كما خطط لها أن تتم كما قلت. أما إن قمعت المسيرة بالعنف والقوة، فإن هذا سيؤدي إلى حرق بعض المراحل، وسيجعل المواجهة أشد عنفا، بل سيجعل إجابة السؤال "بماذا بعد" أكثر سهولة أمام عموم الحراك الشعبي الذي لن يجد بداً من المواجهة بنبرة أشد وأعنف. ولهذا قلت إن الحسابات قد صارت اليوم سياسية وليست قانونية، ولهذا أؤمن أيضا بأن الخيط الأهم من خيوط اللعبة لا يزال بيد السلطة مربوطا بعمود الحكمة، وفي ذات الوقت بعمود الإصرار على المواجهة وكسر العظم، فإن تغلبت الحكمة، فلعله لا يزال هناك سبيل للتهدئة ومعالجة الأمور، وإن تغلب العمود الآخر، فالأمور إلى الأسوأ لا محالة. وعلى أي حال، يعلم من تابعوا هذه الزاوية طوال المدة السابقة بأني ممن يؤمنون عميقا ويعتنقون الرأي دائما بألّا نجاح عظيماً دون ألم عظيم، وأن هذه البلاد لن تخرج من أزمتها إلا بمواجهة هذا الألم العظيم، فالدمامل لا علاج لها إلا بالسكين التي يجب أن تغرس عميقا فيها لتخرج قيحها ومرضها، وأن المواجهة قادمة، عاجلا أو آجلا، فالحكمة الحكمة يا من يمتلك الحكمة.