ثلاث أكاذيب تشوش على الناخب المصري
لم تنهك الثورة مصر أو تهددها بالغرق في الإفلاس والفوضى، ولكن ما فعل ذلك ليس سوى محصلة أخطاء بعض أبناء الثورة مضافة إلى مكائد كارهيها وأعدائها خصوصاً هؤلاء المنتمين إلى النظام السابق وأصحاب المصلحة في إعادة إنتاجه.
ثلاثة أكاذيب تشوش على الناخب المصري في الانتخابات الرئاسية التي تشهدها أرض الكنانة للمرة الأولى في تاريخها الممتد لآلاف السنين؛ وهي أكاذيب تمت صناعتها بإحكام، وروج لها بعض الإعلام، حتى كادت تتحول إلى مسلمات في عقول الكثيرين وأفئدتهم.الكذبة الأولى: إن الثورة قامت من أجل تطبيق الشريعة وصبغ المجتمع بصبغة الإسلام؛ وبناء على ذلك يجب على الناخب أن يعطي صوته للمرشح "الذي يعرف ربنا، ويطبق الشريعة، لأن في تطبيق الشريعة حل لجميع مشاكلنا". تنطلق تلك الكذبة من مغالطة كبيرة مفادها بأن الشريعة كانت مستبعدة ومهانة في مصر، بل وإن الإسلام لم يكن قائماً على النحو اللازم. تلك خديعة كبرى بامتياز؛ فالإسلام في مصر قائم يخدم ويصان على وجه حسن، والشريعة تمثل مرجعية حقيقية لمعظم القوانين والأعراف والتوجهات الاجتماعية، ليس فقط لأن المادة الثانية في دستور 1971 المجمد، وفي الإعلان الدستوري الذي تم إصداره في نهاية شهر مارس 2011، تؤكد ذلك، ولكن أيضاً لأن الشعب المصري متدين بطبيعته، والإسلام يمثل الجزء الأهم والأكبر في تكوينه الحضاري ووجدانه العام، وهذا الأمر ينطبق على الأخوة المسيحيين كما ينطبق على المسلمين تماماً.قامت ثورة يناير لأسباب تتعلق بالرغبة في التخلص من نظام فاسد وعاجز، ولمقاومة مشروع التوريث، ولاستعادة الشعور بالكرامة والعدالة والفخر الوطني. لقد كان ذلك واضحاً في شعارات الثورة (عيش... حرية... عدالة اجتماعية... كرامة إنسانية)، كما كان الفخر الوطني والكبرياء الوطنية المستحقة بارزين في شعار "ارفع رأسك فوق... أنت مصري"، وكانت الوحدة الوطنية متجسدة في الأيام من 25 يناير إلى 11 فبراير 2011 على نحو مذهل، حيث التحم المسيحيون بالمسلمين في مشهد وحدة وطنية مجلل بالفداء والصمود.لم تطرح ثورة يناير أي شعار خاص بتطبيق الشريعة، بل إن نزوعها الأساسي كان حداثياً، وهدفها الأول كان دولة وطنية قوية، ونظرتها للدين كانت باعتباره طاقة ربانية عظيمة ستلهم المؤمنين للصمود في وجه الطغيان لإدراك العدل والكرامة اللذين يمثلان قيمتين من القيم التي تحض عليها الأديان.بطريقة أو بأخرى، استطاعت بعض الأحزاب السياسية ذات الإسناد الديني أن تقنع جموعاً كبيرة من المصريين بأن الثورة قامت من أجل "نصرة الإسلام"، و"تطبيق الشريعة"، وراح علماء دين وناشطون يفاضلون بين ثلاثة من مرشحي التيار الإسلامي على قاعدة أيهم سيلتزم أكثر من الآخرَين بتطبيق الشريعة، وصدّق قطاع من الناخبين هذا التوجه، وهي كذبة كبرى قد يدفع المصريون ثمنها غالياً.الكذبة الثانية: أن الثورة أنهكت مصر، وعرضتها للانفلات الأمني والفوضى، وجعلتها تقترب من الإفلاس، وهددت الدولة بالانهيار التام.ماكينة ضخمة جداً تضم عناصر من النظام المطاح، مدججة بالأموال التي جنتها من عوائد الفساد والهدر، وبعض المصالح الإقليمية والدولية، وترسانة كبيرة من وسائل الإعلام، تحالفت مع الإدارة الانتقالية السيئة والبطيئة والمرتبكة وأحياناً المتواطئة للمجلس العسكري، واستخدمت جهاز الدولة البيروقراطي العملاق في تشويه صورة الثورة لدى الجمهور البسيط.واستفادت هذه الماكينة الضخمة من دون شك من أخطاء فادحة وقع فيها بعض الثوار من التيار الليبرالي، وآخرون من التيارات الدينية، الذين وجدوا في "المليونيات" المتكررة و"الخطاب الزاعق" وسيلة للنفاذ في وسائل الإعلام وتحقيق النجومية، كما استفادت أيضاً من عجز القلب الصلب للثورة على تصليب ذراع سياسية تتحدث باسمها، وتفاوض، وتقود، وتحقق المطالب، وترسم الاستراتيجيات، ثم تنافس في الانتخابات. بالطبع لم تنهك الثورة مصر أو تهددها بالغرق في الإفلاس والفوضى، ولكن ما فعل ذلك ليس سوى محصلة أخطاء بعض أبناء الثورة مضافة إلى مكائد كارهيها وأعدائها خصوصاً هؤلاء المنتمين إلى النظام السابق وأصحاب المصلحة في إعادة إنتاجه.الكذبة الثالثة: إن مصر دولة ذات طبيعة خاصة، ولذلك لا يمكن أن يحكمها إلا رجل دولة لديه خبرة كبيرة في شؤون الحكم وسبق أن عمل في الجهاز التنفيذي وتولى مناصب رفيعة.يسوّق تلك الكذبة قطاع من أنصار النظام السابق، الذين يريدون أن يصل إلى سدة الرئاسة في مصر رجل من أبناء دولة مبارك الذين عملوا بالقرب منه ومن الطغمة التي صاحبته على مدى ثلاثة عقود.ترتكز تلك الكذبة على فكرة أن عدداً من المرشحين المحسوبين على الثورة ليس لهم خبرة في الجهاز الإداري وسلطة الحكم بالدولة، وكيف لهم هذا وقد كان عدد منهم مطروداً من رحمة الدولة أو ضيفاً دائماً على سجونها.وتصور تلك الكذبة للجمهور أن الحكم ليس سوى وظيفة، وأن أحد أهم مسوغات شغلها أن يكون المتقدم لنيلها قد عمل في وظيفة مشابهة لها في وقت سابق. ويصدق بعض المصريين ذلك، فيقولون في مجالسهم: "سننتخب فلاناً لأنه عمل وزيراً أو رئيس وزراء، ولأنه يعرف المسؤولين في الدول الأخرى ولديه علاقات بهم".تلك الأكاذيب الثلاثة ستلعب دوراً مؤثراً في الانتخابات التي ستشهدها مصر هذا الأسبوع، وقد تحسم نتائج التصويت بشكل أو بآخر؛ فسنجد ملايين الأصوات التي ستتوجه إلى مرشحين معينين لأنهم "سيطبقون الشريعة"، بينا هي قائمة تخدم وتصان في مصر، ولم يكن تطبيقها أحد أهداف قيام ثورة يناير على أي حال.وسيصوت ناخبون لمرشح معين لأنه "سيعيد لهم الأمان الذي كانوا ينعمون به أيام مبارك"، غير مدركين أن تلك الفوضى والانفلات الأمني مصنوعان، وأن من يقايض أمنه بحريته، بالتأكيد سيخسر الاثنين.كما سيصوت مصريون لرجال لمجرد أنهم "عملوا في مواقع تنفيذية عليا سابقاً"، وكأن من سيكون رئيساً لمصر لن يتمكن من الاتصال بأي مسؤول دولي إلا إذا كان يرتبط معه بعلاقة سابقة.في حال تفادى المصريون الوقوع في تلك الأكاذيب الثلاثة، فإن نتيجة التصويت من دون شك ستصب في مصلحة مرشح ثوري، لا يتاجر بالدين، ولم يعمل مع مبارك، وسيكون على الأرجح أكثر قدرة على تحقيق مطالب ثورة يناير "العيش... والحرية... والعدالة الاجتماعية".* كاتب مصري