«جيل البِيت» في أميركا منتصف القرن الماضي يقابل «جيل الشباب الغاضب» في بريطانيا. الأخير يتمثل برواية كَنغْسلي أمِز «جِم المحظوظ»، ومسرحية جون أوزبورن «أنظر إلى الخلف بغضب»، وكتاب كولن ولسون «اللامنتمي». في أميركا تمثل بقصيدة «عواء» لجِنسبيرغ، ورواية «على الطريق» لكيروياك. وكلا الجيلين يمثلان ردة فعل رافضة لمجتمعات ما بعد الحرب الثانية، الغارقة في تقاليدها الموات والجوفاء.

Ad

الرواية الأخيرة أخرجت للسينما هذه الأيام. ذهبتُ للمشاهدة وبي عدة العارف بالجيلين، وبالرواية، وبالفيلم الأول الذي أنتج عنها في الثمانينيات (Heart Beat، 1980، للمخرج John Byrum). هذا الفيلم الجديد من إنتاج المخرج الشهير كابولا، وإخراج البرازيلي ولتر ساليز، ويمتد ساعة ونصف. والرواية سيرة ذاتية لكيروياك في مرحلة أول الشباب، يوم أُخذ بشخصية شاب آخر (كاسّادي) ليست بعيدة عن شخصية زوربا، بفعل عنف لامبالاة انتسابها إلى اندفاعتها الغريزية باتجاه الحياة. وهي لامبالاة تدحر جانباً كل أعراف مؤسسة العائلة، المجتمع والدولة، وتخطو إلى الأمام، حتى لو كان هذا الأمام منحدراً. وخيط الرواية بالغ التلقائية والطواعية: حين يلتقي سال بارادايس (اسم كيورياك في الرواية)، وهو شاب جامعي خجول في الخامسة والعشرين من عمره، دين موريارتي (اسم كاسّادي في الرواية)، يتفقان على أن يعلم أحدهما الآخر: «سال» يتعهد بتوجيه «دين» أدبياً، و»دين» بتوجيه «سال» الانطوائي نحو مسعى وجودي متحرر في بُحران الجنس والمخدرات وموسيقى الجاز. وهذا الدرس المتبادل يتم في رحيل أرضي داخل سيارة بائسة عبر مدن أميركا.

الرواية نسيج حي لمشاعر ومواقف وتطلعات جيل «البِيت» والهِيبيز الأميركي في أواخر النصف الثاني من القرن الماضي. الجنس، الجاز، الشعر والمخدرات كانت أنوية لجذور لم تخرج للضوء كفاية، لتُطلع أزهاراً أو ثماراً متعافية. عناصر أنهكت الشبان، وأماتتهم في أعمار قصيرة (توفي كيروياك في السابعة والأربعين بفعل الخمر عام 1969). وبالرغم من أن الناشرين تهافتوا على نشر روايات «كيورياك» الأخرى، بفعل شهرة «على الطريق» بعد موته طبعاً، إلا أن هذه الرواية (نُشرت أول مرة عام 1957) ظلت هي الأكثر تداولاً. ولا شك أن فيلم «ولتر ساليز» هذا سيدعم مبيعات الرواية من جديد.

الفيلم يأخذك بيسر إلى مكان غير مكانك، وزمان غير زمانك. هذا إذا كنت عربياً مثلي. هذا اليسر وليد نجاح كل عناصره، التمثيل، الكاميرا، الموسيقى تحت هيمنة مخرج حاز جوائز عدة. وهذا اليسر وليد ارتباطه بمرحلة شغلت الغرب ثقافياً، وشغلتنا، نحن الستينيين، في ما بعد. بالرغم من أن كل مشاغل جيل الغضب الغربي كانت عورات بالنسبة لنا: الجنس عورة، الموسيقى عورة، الخمر عورة... فاضطررنا إلى أن نفتعل مشاغل ومواقف على هامش هذه العورات، إلى أن أصبحت محرمات في أيامنا هذه.

ولكن الفيلم يتطلب رأياً من مشاهده أيضاً. لم أعرف عن يقين ما كان يدور في رأس الجمهور الأشيب، وهو يستعيد فورة الشباب القديمة. على أني أعتقد أنه ما كان ليطمع في العودة، أو تكرار الفورة. جيل الشبان من المشاهدين كان يتحمس، يعجب، يضحك ويغادر غير مبالٍ. أما أنا فلم أكترث إلا لموجة الأسى التي انتابتني، وأنا أتأمل بعداً بيناً من أبعاد الحماقة الإنسانية، صارخة نشوة ولكن من فم نازف.

«كيورياك» كان شاعراً أيضاً، ولكن من شعراء موسيقى الجاز، التي تحدثت عنها يوماً في هذا العمود. يستلهم إيقاعه منه، ومادته من «البوذية» بشأن دورة الحياة والموت، وهاجس الفقدان الدائم:

حكاية الإنسان تُمرضني/ في داخلي وخارجي/ ولا أعرف لماذا/ شيءُ مشروط تماماً/ وكل الكلام/ لابد يوجعني أيضاً.

أنا موجوعٌ/ أنا خائف/ بي رغبة في الحياة/ ولي رغبة في الموت/ ولا أعرف لأي وجهة أستدير/ في هذا الفراغ/ ومتى أفلت.