كل الأزمات، طال الزمان أو قصر، مصيرها إلى الزوال، وأزمتنا السياسية الحالية لن تكون استثناءً عن هذه السُنّة الكونية، لذلك فلنطمئن جميعاً لأن المسألة مسألة وقت لا أكثر، مهما تزايد الألم واشتد، ولا ظفر دون بذل، ومن سيتجاوزون قنطرة الوقت بسلام في النهاية هم الذين سيصمدون ويبذلون ويصبرون وأبداً لا يستعجلون القطاف. هم أولئك الذين سيحرثون ويبذرون وينتظرون بأناة وصبر بابتسامة الواثق، وأما الذين لا يصبرون ويستعجلون فهم من سيقعون في الأخطاء مرة تلو مرة، وفي مثل هذا تكون النهايات والحتوف.

Ad

لكن وإن كنت قد قلت ما قلت، فإن أخطر ما في أزمتنا الحالية هو أن بعض الأطراف لا تزال تستخدم عناصر التركيبة المجتمعية كأوراق تزج بها بلا تردد على طاولة النزاع، دون أن تدرك خطورة ما سيؤول إليه هذا الأمر وهذه مصيبة عظيمة، أو لعلها تدرك هذا ولكن لا تبالي، والمصيبة هنا أعظم.

من المهم جداً، بل من اللازم، وهذا لمصلحة الجميع بلا استثناء، أن تظل أزمتنا الحالية محصورة في الأطر السياسية البحتة، وأن تظل طوال الوقت متكئة على الأسانيد الدستورية من قِبل جميع الأطراف، لأنها في اللحظة التي ستخرج فيها عن هذه الأطر وتفارق هذه الأسانيد، فإن كل مفردات الصراع الجاري ستقفز إلى قواميس مختلفة تماماً وغير مألوفة في الواقع المحلي، وستنعطف معها الأدوات المستخدمة بطبيعة الحال، وبالأخص من ناحية الحراك الشعبي على سبيل رد الفعل، ولا أظن أن هذه الجزئية بحاجة إلى مزيد من التوضيح، بل لعلها من الأفضل أن تظل غائمة جزئياً حتى تستدرج بعض الخيالات الشاطحة والصور البعيدة، لعل النفوس تخاف وترعوي.

استخدام عناصر التركيبة المجتمعية، وبالأخص العنصر العرقي، ممثلاً بالقبائل والعوائل، والعنصر الطائفي/المذهبي، ومحاولة جر هذه العناصر وإقحامها في دائرة الصراع السياسي لإظهار أن هذه القبائل أو تلك تقف في صف النظام، أو أن هذه القبيلة أو تلك تتخذ موقفاً معارضاً، أو أن أتباع هذه الطائفة يميلون إلى ناحية النظام وأتباع الطائفة الأخرى يميلون إلى صف المعارضة وهكذا، هو بعينه ما سيؤدي إلى إخراج الأزمة الحالية بشكل حاد عن إطارها السياسي الدستوري، وتحويلها إلى أزمة مجتمعية عرقية طائفية ملتبسة كبرى قد تهدم أساسات هذه البلاد وتعصف بالجميع بلا استثناء، وليس لبنان عنا ببعيد، الأمر الذي سيؤدي حتماً إلى تغيير شكل دولتنا التي نعرف منذ مئات السنين، وهو ما لا أظن عاقلاً من مختلف الأطراف يريده.

يا سادتي، يجب أن يتوقف الجميع عن زج القبائل والعوائل والطوائف في أتون الصراع الجاري، وليظل شيوخ القبائل ووجهاء العوائل والطوائف في مقاماتهم الاجتماعية المصونة المقدرة، فليس لهم أي دور سياسي وفقاً لدستورنا الذي رسم شكل الحياة السياسية التي نحياها في دولة سلطات ومؤسسات، إنما لهم قيمتهم الاجتماعية التي يكون دورها أن تحمي لحمة المجتمع وارتباط الناس بعضهم ببعض فحسب.

القبائل والعوائل والطوائف لا يمكن، لا عقلاً ولا موضوعاً، أن تعتنق عن بكرة أبيها آراء سياسية موحدة، فلكل فرد من أفرادها الحق في أن يميل لمصلحة هذا الرأي أو ذاك وفقاً لاجتهاده الفكري وانتمائه السياسي، وبالتالي وعلى سبيل المثال، فإن رأي شيخ قبيلتي، مع احترامي لشخصه ومكانته الاجتماعية، لا يمثلني سياسياً ولا يعنيني بشيء إلا بمقدار اقتناعي به، وكذلك فإن آراء علماء طائفتي ومشايخها لا تلزمني بشيء إلا بمقدار إيماني بها.

إقحام القبائل والعوائل والطوائف، وهي الكيانات الاجتماعية غير السياسية أصلاً، في الصراع السياسي الدائر اليوم، سيؤدي إلى زرع الفتن والشقاقات والخلافات المجتمعية التي ستتجذر عميقاً وسيصعب أن تزول بعد ذلك، حتى إن زالت الأزمة السياسية، وهي التي ستزول بإذن الله عاجلاً أو آجلاً. أرجو أن يدرك الجميع هذا الأمر وأن يمتثلوا لصوت العقل.