الأندلس بين عصرين

نشر في 16-08-2012 | 00:01
آخر تحديث 16-08-2012 | 00:01
الأندلس... تاريخ الفردوس المنسي (13)

بعد أن سيطر المرابطون على الأندلس، حولوها لولاية تابعة لهم، لتدخل الأندلس عصرا جديدا عادت فيه إلى عصر ما قبل حكم الأمويين، عندما كانت ولاية تابعة للخلافة في دمشق تدار من الخارج، وهو أمر أثار روح الكبرياء لدى الأندلسيين الذين بدأوا ينظرون للمرابطين على أنهم قوات احتلال، وبدأوا يبحثون عن حريتهم المفقودة، ما سيكون له أكبر الأثر على مجرى الحوادث في الأندلس.

قسمت بلاد الأندلس إلى ست ولايات في عصر المرابطين، هي قرطبة وإشبيلية وغرناطة وبلنسية ومرسية وسرقسطة، تولى إدارتها المرابطون الذين اختصوا أنفسهم بالولايات الكبرى في الأندلس وجعلوا أهل البلاد في الوظائف الإدارية، ولضمان سيطرتهم على البلاد من جهة وللوقوف في وجه التقدم الإسباني تقرر تخصيص جيش مرابطي مقيم في الأندلس قدر بـ17 ألف جندي تولى عملية متابعة الجهاد ضد تحركات ألفونسو السادس، واستطاعت القوات المرابطية استعادة عدد من الحصون الإسلامية المهمة كان على رأسها بلنسية.

استغل ألفونسو السادس وفاة عاهل المغرب يوسف بن تاشفين في سنة 500هـ/ 1106م، معتقدا أن الفوضى ستدب في جسد دولة المرابطين عند اعتلاء الحاكم الجديد علي بن يوسف بن تاشفين، فهاجم بلاد الأندلس وأرسل حملة عاثت فوضى في إقليم إشبيلية، وهدد المدينة بالغزو، لذلك أمر أمير المرابطين الجديد أخيه تميما حاكم غرناطة لمواجهة ألفونسو ورده عن بلاد المسلمين، وبالفعل خرج تميم على رأس قوات الأندلس وحاصر حصن أقليش شرقي طليطلة.

أراد ألفونسو السادس نجدة الحصن وهزيمة القوات المرابطية هزيمة ساحقة في الوقت ذاته، لذلك أرسل حملة من سبعة آلاف جندي بقيادة أكبر قواده ألبر هانش، وليزيد من حماسة جنده أرسل مع الحملة ولده سانشو (شانجة) الذي لم يكن قد بلغ الحادية عشرة من عمره، إلا أن الحملة منيت بهزيمة ساحقة تحت أسوار أقليش في سنة 501هـ/1108م، أعادت ذكرى انتصار الزلاقة الساحق، وقتل تحت أسوار أقليش الأمير سانشو بن ألفونسو السادس، وسقط حصن أقليش في أيدي المسلمين هو وعدد من الحصون المجاورة، وكان انتصار أقليش أعظم انتصار حققه المرابطون في الأندلس على قوات قشتالة بعد انتصار الزلاقة.

لكن النتيجة الأهم كانت متمثلة في أن خبر مقتل الأمير سانشو ما كاد يصل إلى والده الملك ألفونسو، حتى انزوى وأصيب بالاكتئاب حزنا عليه، ولم يلبث أن مات في سنة 503هـ/1109م، لتنتهي بذلك حياة هذا الرجل الذي دوخ بلاد الأندلس، وأحرج ملوك الطوائف، وشكل خطرا داهما على وجود الإسلام في الأندلس عقودا، وكانت وفاته نذيرا باندلاع الحرب الأهلية بين الممالك الإسبانية لوراثة عرش ألفونسو الذي لم يترك وريثا ذكرا، ما أراح الأندلسيين من هجمات الإسبان إلى حين.

كان انتصار أقليش ووفاة ألفونسو السادس، بداية نشاط حربي مكثف للقوات المرابطية في الأندلس، فقد عبر أمير المرابطين علي بن يوسف بن تاشفين إلى بلاد الأندلس في عام 504هـ، بغرض "الجهاد، ونصر الملة، وإعزاز الكلمة"، وكان غرضه استعادة مدينة طليطلة، لذلك انطلق صوب المدينة الحصينة عاصمة قشتالة، وفي طريقه استعاد مدينة طلبيرة، وعددا من حصون إقليم طليطلة، وبدأ حصار المرابطين لطليطلة إلا أن مناعة أسوارها الشاهقة ووعورة الطريق الجبلي المحيط بالمدينة، فضلا عن قيادة ألبار هانيس أكبر قواد قشتالة، أجبر علي بن يوسف على فك الحصار عن طليطلة.

سقوط سرقسطة

وفي أثناء محاصرة أمير المرابطين لمدينة طليطلة، كان جيش مرابطي آخر بقيادة سير بن أبي بكر يتصدى للخطر الذي نجم في غرب الأندلس المتمثل في قيام إمارة البرتغال، بعد أن استقل بها الأمير هنري البرجوني، صهر الملك ألفونسو السادس وزوج ابنته الذي اتخذ من قُلُمرية عاصمة لولايته، واستطاع سير بن أبي بكر تقليم أظافر البرتغال واسترد مدن أشبونة وشنترين، كذلك استعاد الأسطول المرابطي الجزر الشرقية (جزر البليار: ميورقة ومنورقة) من قوات المدن الإيطالية جنوا وبيزة.

انتصارات المرابطين لم تمض بلا منغصات، فقد تلقت القوات المرابطية ضربة لنفوذها العسكري بعد ضياع مدينة سرقسطة (قاعدة الثغر الأعلى) التي كانت البوابة الحصينة للأندلس ضد أطماع دوقية برشلونة في الشرق ومملكة أراجون الإسبانية في الشمال.

كان ألفونسو الأول "المحارب"، ملك أراجون، يسعى إلى غزو سرقسطة، وحاول مهاجمتها أكثر من مرة إلا أن القوات المرابطية صدته بنجاح، لذلك استعان ملك أراجون بالفرسان الصليبيين من فرنسا وإيطاليا، وكانت انتصارات الحملة الصليبية في المشرق باعثا لموجة من الحماس الديني في أوروبا ضد الإسلام، وهي مشاعر استغلها ملك أراجون لمصلحته، وهاجم سرقسطة بجيوشه والإمدادات الصليبية، وضرب الحصار على المدينة في شهر صفر سنة 512هـ/مايو 1118م، ورغم المعارك الطاحنة بين الفريقين، التي استبسل فيها أهالي سرقسطة، فإن الحصار استمر مدة سبعة أشهر حتى آتى على معنويات أهالي سرقسطة، وكان فصل الخطاب وفاة والي المدينة عبدالله بن مزدلي، فلم يجد أهالي المدينة إلا التسليم في 3 رمضان سنة 512هـ/18 ديسمبر سنة 1118م، وحول ملك أراجون المدينة فور دخولها إلى عاصمة لمملكته وجعل منها مركز أسقفية، وهكذا سقطت سرقسطة بعد أن حكمها الإسلام مدة أربعة قرون كانت خلالها سدا منيعا أمام هجمات الإسبان والفرنسيين.

ضربة موجعة

كان ضياع سرقسطة ضربة موجعة بعد سقوط طليطلة، وانكمشت بلاد الإسلام في الأندلس في إثرها لصالح مملكة إراجون التي لم تكن تعدو أن تكون مجرد نتوء بجوار ضخامة ولاية سرقسطة، إلا أنها أخذت في التوسع على حساب المسلمين سريعا، كذلك ألحق ضياع سرقسطة ضربة موجعة لجهود المرابطين وسمعتهم الحربية وأعاد الثقة من جديد للممالك الإسبانية في مواصلة حرب الاسترداد.

حاول المرابطون استعادة سرقسطة إلا أنهم تعرضوا لهزيمة ساحقة في كتندة سنة 514هـ/1120م، أنهت التفوق المرابطي على الإسبان، وعاد الأندلسيون إلى خانة الدفاع من جديد، فأقيمت الأسوار والحصون لحماية المدن الأندلسية.

في ذلك الوقت، كانت دولة المرابطين تمر بمرحلة عنفوان قوتها إلا أن عوامل الانهيار برزت بغتة عندما بدأ محمد بن تومرت في نشر دعوة دينية جديدة قائمة على التوحيد، ودخلت الدعوة الجديدة في حروب طويلة ضد دولة المرابطين طوال عهد علي بن يوسف بن تاشفين، وعندما تُوفي في سنة 537هـ/1143م بدأت دولة المرابطين في الانحلال، واستطاع قائد الموحدين عبدالمؤمن بن علي أن يدخل مراكش عاصمة المرابطين في 18 من شوال 541هـ/24 مارس 1147م، ليزيل دولة المرابطين من صفحة الوجود ويعلن قيام الدولة الموحدية الجديدة، التي ضمت تحت لوائها بلاد المغرب من طنجة غربا حتى حدود مصر الغربية شرقا.

وبدأ عبدالمؤمن بن علي يمد بصره صوب الأندلس، ليمد نفوذه إليها كما كان الحال في عهد المرابطين، وكانت الحرب بين المرابطين والموحدين أنهكت الجبهة الأندلسية وضربت الفوضى البلاد، وهي فرصة استغلها الإسبان جيدا، وهاجموا مدينة ألمرية الساحلية، التي كانت تعد معقل الأسطول الأندلسي، وسقطت المدينة بمساعدة فرنسية، واستشهد الآلاف وأسر العديد من أهالي المدينة "وأحصي عدد من سبي من أبكارها فكان أربعة عشر ألفا" كما أورد المقري، كذلك سقطت مدن طرطوشة ولاردة في شرق البلاد في سنة 543هـ/1148م. في وقت كان ألفونسو السابع قد نجح في استعادة وحدة البلاد الإسبانية تحت زعامة قشتالة من جديد، بعد أن اعترفت به جميع ممالك الإسبان قيصرا عليهم.

لذلك أرسل عبدالمؤمن بن علي قواته صوب الأندلس بهدف القضاء على بقايا المرابطين والدفاع عن الأندلس، واستطاعت قواته أن تنشر النفوذ الموحدي سريعا، وعبر عبدالمؤمن بن علي على رأس جيش كبير قُدر بـ200 ألف مقاتل إلى جبل طارق في سنة 558هـ/ 1163م، استعدادا لدخول الأندلس وفي رأسه مشروع لإعادة فتح جميع المعاقل الإسبانية وليس فقط مواجهة أطماع ملك البرتغال في مدن غرب الأندلس، إلا أن الأقدار لم تمهله، فوافاه أجله.

موقعة الأرك

خلف أبويعقوب يوسف والده في حكم دولة الموحدين، الذي تهيأ لحملة كبيرة في سنة 580هـ/1184م في محاولة لاستعادة مدينة شنترين من ملك البرتغال، إلا أن الخليفة الموحدي فك الحصار عن المدينة بعد أنباء وصلت إليه بتقدم ملك ليون لنجدة بني جلدته، وأثناء انسحاب ملك المغرب تعرض لهجوم برتغالي أصيب على إثره بجراح قاتلة، وخلفه ولده أبو يوسف الذي تلقب بالمنصور، ويعد عصره ذروة العظمة للدولة الموحدية، في وقت اشتد هجوم الملوك الإسبان والبرتغال على مدن الأندلس، وكانت قمة المأساة هجوم ملك البرتغال سانشو الأول على مدينة شلب الحصينة سنة 585هـ، فأمر المنصور الموحدي بالنفير العام للجهاد، وكانت الأجواء ممهدة لعمل جهادي ضخم في الأندلس بعد أنباء الانتصار التاريخي الذي حققه صلاح الدين الأيوبي في موقعة حطين سنة 583هـ/1187م، واسترداد مدينة بيت المقدس من الصليبيين فاندلعت موجة حماسة دينية للجهاد في مشارق العالم الإسلامي ومغاربه، فانسالت على المنصور الموحدي جموع المجاهدين من كل حدب وصوب، حتى اجتمع لديه مئة ألف مقاتل، خرج بهم للجهاد في سبيل الله واسترداد مدينة "شلب".

عندما علم ملك قشتالة ألفونسو الثامن بوصول جيش الموحدين إلى الأندلس قرر الاستعانة بجميع ملوك إسبانيا، وخرج على رأس قواته التي قدرت بمئتي ألف مقاتل بين فارس ورجل، وعسكر بجوار حصن الأرك بالقرب من طليطلة، في النقطة الفاصلة بين مملكة قشتالة والأندلس، وعندما علم المنصور الموحدي بخروجه أمر بالتوجه فورا صوب المعسكر القشتالي.

وضع المنصور الموحدي خطة المعركة بمساعدة أبو عبدالله بن صناديد كبير القادة الأندلسيين الذي كان من أعقل وأخبر زعماء الأندلس بمكائد الحروب، وعلى معرفة كاملة بتحركات الإسبان وطرق الإيقاع بهم، فأشار على السلطان المنصور باختيار قائد موحد للجيش، فوقع الاختيار على أبي يحيى بن أبي حفص المغربي كقائد عام على الجيوش الإسلامية.

كما أشار ابن صناديد على المنصور بتنفيذ خطة شبيهة بتلك التي نفذت في موقعة الزلاقة، بتقسيم الجيش إلى نصفين، الجيش الرئيسي في المقدمة، والنصف الثاني كقوة احتياطية لترقب سير المعركة.

تولى ابن صناديد قيادة ميمنة الجيش التي تضم الفرق الأندلسية، بينما احتل الجيش الموحدي النظامي القلب، وكانت فرق العرب الهلالية والبربر في الميسرة، في حين شغلت القوات المتطوعة مؤخرة الجيش، ووقف الخليفة الموحدي على رأس القوات الاحتياطية وحرسه الخاص فوق أحد التلال يترقب سير المعركة.

وقبل المعركة الفاصلة أرسل الخليفة المنصور رسالة إلى جميع جنوده قال فيها: "إن الأمير يقول لكم: اغفروا له؛ فإنَّ هذا موضع غفران، وتغافروا فيما بينكم، وطيبوا نفوسكم، وأخلصوا لله نياتكم". ثم قام الخطباء يخطبون عن الجهاد ويذكرون بفضله وشرفه ومكانته ويحمسون الجند له.

وفي 9 من شهر شعبان سنة 591هـ، التقى الفريقان في معركة شرسة، بدأ فرسان قشتالة الهجوم، لكن ابن صناديد نادى بأعلى صوته "أثبتوا معشر المسلمين، ثبت الله أقدامكم بالعزمة الصادقة".

قوات الاحتياط

ركز الملك ألفونسو الثامن هجومه على قلب الجيش الإسلامي ظنا منه أن من يقوده هو الخليفة الموحدي، وهو الهجوم الذي زعزع صفوف المسلمين رغم بسالة دفاعهم، وسقط قائد الجيش العام أبي يحيى بن أبي حفص شهيدا، فأمر ابن صناديد بالهجوم العام على الربوة التي يتمركز بها ألفونسو الثامن، و"أخذوا في قتال مَنْ بها فاشتد القتال، وعظمت الأهوال، وكثر القتل في النصارى".

هنا أمر الخليفة الموحدي قواته الاحتياطية بالنزول إلى ساحة الوغي "فضربت الطبول، ونشرت الرايات، وارتفعت الأصوات بالشهادة، وتسابقت لقتال أعداء الله الأبطالُ والجنودُ، وزحف أمير المؤمنين بجيوش الموحدين، قاصداً لقتال أعداء الله الكافرين، فتسابقت الخيل وأسرع الرجال، وقصدوا نحو الكفرة، للطعان والنزال، فبينما ألفونسو الثامن قد همَّ وعزم أن يحمل على المسلمين بجميع جيوشه، ويصدهم بجنوده وحشوده؛ إذ سمع الطبول عن يمينه قد ملأت الأرض، والأبواق قد طبقت الرُّبَا والبطاح، فرفع رأسه لينظر فيها، فرأى رايات الموحدين قد أقبلت، واللواء الأبيض المنصور في أولها عليه: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لا غالبَ إلا الله، وأبطال المسلمين قد تسابقت وجيوشهم قد تناسقت وتتابعت، وأصواتهم بالشهادة ارتفعت، فقال: ما هذا؟ فقيل له: هذا أمير المؤمنين قد أقبل، وما قاتلك اليوم كله إلا طلائع جيوشه، ومُقَدِّمات عساكره، فقذف الله عز وجل الرعب في قلوب الكافرين، ووَلَّوا الأدبار منهزمين، وعلى أعقابهم ناكصين "على حد وصف المؤرخ المعاصر ابن أبي زرع".

انقشعت غبار المعركة عن انتصار الجيش الإسلامي وهرب ملك قشتالة إلى بلاده يحمد ربه على النجاة، كان انتصار الأرك قرينا بانتصار الزلاقة، وتخليدا لذكرى هذا الانتصار بنى الخليفة الموحدي مأذنة ضخمة شاهقة الارتفاع لمسجد إشبيلية لا تزال موجودة حتى الآن.

إلا أن عظمة الانتصار لم يعقبه استثمار حقيقي لهذا النصر الكبير، فكان من المنتظر أن يتابع المنصور الموحدي انتصاره الكبير بعمل حاسم بفتح طليطلة، أو استعادة سرقسطة أو غيرها من مدن الأندلس الرئيسية التي سقطت في قبضة الإسبان.

لم يكسب المسلمون شيئاً سوى النصر، من موقعة الأرك فلم نجد عملاً حربياً حقيقياً يكرس لانتصار المسلمين بفتح مدينة أو إسقاط حصن، فقط مظاهرات حربية جوفاء لم تنجح إلا في تقليم أظفار ملك قشتالة ألفونسو الثامن إلى حين.

من ناحيته، لم ينس ألفونسو الثامن هزيمته أمام الموحدين أبدا، وبدأ على الفور في العمل على بناء جيش جديد ينازل به المسلمين، ويقول المؤرخ عبدالواحد المراكشي "وخرج الأذفنش (أي ألفونسو) لعنه الله، إلى قاصية الروم مستنفرا من أجابه من عظماء الروم وفرسانهم وذوي النجدة منهم، فاجتمعت له جموع عظيمة من الجزيرة نفسها ومن ألمان، حتى بلغ نفيره القسطنطينية، وجاء معه صاحب بلاد أرغن المعروف بالبرشنوني لعنه الله".

واجتمع لديه قوات منظمة قدرت بمئة ألف جندي، وانتظر في بلاده ثغرة ينفذ منها إلى الأندلس، وجاءت الثغرة عندما تُوفي بطل الأرك الخليفة الموحدي المنصور في سنة 595هـ/1199م، وخلفه ولده أبو عبدالله محمد الناصر، الذي أهمل شأن الأندلس نتيجة انشغاله بثورات إفريقية.

اضطر الخليفة الناصر لدخول الأندلس لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وإيقاف التقدم القشتالي، فدخل الخليفة الموحدي الأندلس في جيش جبار قدر بمئتي ألف مقاتل، وعندما علم ألفونسو الثامن بوصول الجيش الموحدي للأندلس خرج من طليطلة على رأس قواته فهاجم حصن رباح واستعاده، وارتد قائد الحصن ابن قادس الأندلسي، وعندما قابله الخليفة الناصر رفض عذره وأمر بقتله.

كان لقتل ابن قادس وقع سيئ على الأندلسيين الذين وجدوا أحد رؤسائهم يقتل بلا ذنب، فعزموا على الانتقام من قاتله، وكانوا يشكلون ميمنة الجيش، وعندما تقابل الجيشان في سهل "العقاب" صباح (الاثنين) 15 من صفر سنة 609هـ/16 من يوليو 1212م، هجم القشتاليون على مقدمة الجيش، وقد ثبت لهم هؤلاء، فارتد الجيش القشتالي بعد أن فشا القتل فيه وفشل الهجوم الأول، وفي الوقت ذاته ردت ميمنة الجيش الإسلامي وميسرته الهجوم القشتالي، وبدا أن النصر انحاز للمسلمين بعد أن فشا القتل في الجيش القشتالي.

كان ألفونسو الثامن تعلم من معركة الأرك، فقام بإعداد قوات احتياطية، وعندما وجد الهزيمة قد بدأت تحيق بجيشه الرئيسي علم أنه لن يستطيع أن يعيد بناء قواته من جديد فألقى بجميع موارد بلاده في هذه المعركة، ولسان حاله إما النصر وإما الموت، فاندفع ومعه قواته الاحتياطية يقاتل قتال اليائس، فانتظمت صفوف الجيش القشتالي خلفه، وركز هجومه على قلب الجيش الإسلامي حيث الخليفة الموحدي الناصر، وحمى وطيس المعركة، ورغم استبسال الخليفة وتفاني حرسه الخاص في الدفاع عنه فإنه لم يجد مفرا من الانسحاب من أرض المعركة، بعد أن انسحبت الفرق الأندلسية من الجيش الإسلامي وفاء لانتقامها من مقتل كبيرها ابن قادس، ولم ينسحب الناصر من المعركة إلا بعد أن فني حرسه الخاص، وكاد يفقد حياته، وانتهت المعركة بهزيمة الجيش الموحدي، ومقتل معظم جنوده أثناء محاولتهم الفرار من ساحة المعركة.

كانت خسائر الموحدين في معركة العقاب فادحة، فقد قتل في المعركة ما لا يقل عن مئة ألف جندي، فكان المرء يتجول في بلاد المغرب في أعقاب المعركة فلا يجد شابا قادرا على حمل السلاح، وخيمت أجواء الحزن على بلاد المغرب والأندلس حتى قال الشاعر ابن الدباغ الإشبيلي:

وقائلة أراك تطل تفكرا

كأنك قد وقفت لدى الحساب

فقلت لها أفكر في عقاب

غدا سببا لمعركة العقاب

فما في أرض أندلس مقيم

وقد دخل البلا من كل باب

إلا أن الخسارة الكبرى تمثلت في خسارة الموحدين لسمعتهم الحربية ليس في الأندلس فقط بل في المغرب أيضا، وقوضت هذه الهزيمة بنيان الدولة الموحدية فدخلت في نفق الفوضى، وضعفت قبضتها في الأندلس فانسلت مدنها تباعا في وقت اشتدت هجمة الممالك الإسبانية، فكانت معركة العقاب خاتمة تعيسة للأعمال الحربية الكبيرة للمسلمين لوقف التساقط الأندلسي، فعدت فاتحة لانهيار الأندلس، على الجانب الآخر عمت الاحتفالات ممالك الإسبان وتقرر تخليد الانتصار الإسباني في موقعة العقاب الموافق 16 يوليو عيدا قوميا يحتفل به في سائر أنحاء مملكة قشتالة سمي بعيد "ظفر الصليب".

back to top