«مستعجل ليه... لسه عندنا وقت؟»، قالتها سعاد حسني في مطعم منتجع «بانوراما شكشوك» في الفيوم؛ حيث كانت تصور مشاهدها في فيلم «الراعي»، الذي تحول في ما بعد إلى «الراعي والنساء»، لكنني لم أوافقها الرأي، وكنت أشعر بأن «الزمن غدار»، ولا يمنح الإنسان الفرصة مرتين، ورجوتها أن تسمح لي بالبدء في الحوار، وتسجيله تحسباً للظروف، ولم تمانع، فقد كانت في حاجة إلى «الفضفضة»، بعد فترة طويلة اعتزلت فيها الناس والإعلام والأضواء، منذ أن غادرت الساحة، بعد عرض فيلم «الدرجة الثالثة» (1988) الذي قيل إنها اعتزلت بسبب فشله!

Ad

كنت حريصاً على أن أنصت إليها فقط، لذا اكتفيت بسؤالها: «هل اعتزلت حقاً بسبب فشل «الدرجة الثالثة»؟

هنا اكتست ملامحها جدية بالغة، وأكدت لي بصدق أنها لم تعتزل ولكنها آثرت الانسحاب والاحتجاب، كنوع من العقاب لنفسها قبل أن تلوم من حولها، بعدما استشعرت أن ثمة خطأ أثناء تصوير فيلم «الدرجة الثالثة»، ونبهت إليه، لكن أحداً لم يستجب لها أو يُنصت لتحذيراتها، ولما وقعت الكارثة تملكها شعور عميق بأنها تتحمل المسؤولية كاملة، فتوارت واختفت لتنصب المقصلة لنفسها أو تنجح في إعادة ترتيب أوراقها، وتراجع حساباتها.

قبل أن تطول فترة الصمت سألتها عما إذا كانت قد وافقت على المشاركة في بطولة «الراعي» لمجرد أن تُعلن على الملأ أنها لم تعتزل، فعلقت، وإحساس يتملكها أن أحداً لا يفهمها، بأنها لا تنظر إلى مشاركتها في الفيلم بوصفها خطوة للعودة، وأنها ما زالت تعاني متاعب صحية تمنعها من أن تكون في لياقتها المعهودة، لكنها عادت لمناصرة المخرج علي بدرخان الذي كان يجهز لمشروعه السينمائي المأخوذ من مسرحية «جريمة في جزيرة الماعز» للكاتب الإيطالي أوجوبتي. ومن دون مراعاة للمشاعر الإنسانية والمعايير الأخلاقية، ذهب البعض الآخر إلى إنتاج فيلم ثان عن المسرحية نفسها، فكان عليها، كما قالت،أن تقهر متاعبها، وتخرج من عزلتها، وتقف مع علي بدرخان في حربه ضد «الشيطان»!

أذكر يومها أن كاتباً كبيراً عاتبني لأنني سمحت لسعاد حسني بأن تصفه بـ «الشيطان»، لكنها كانت واضحة وصادقة، واستماتت في الدفاع عن قضيتها، كما أشارت إلى أنها ستعود إلى صومعتها، فور الانتهاء من تصوير الفيلم، ولن تظهر على الشاشة إلا بعد أن تتعافى تماماً!

لم يكن حوارا تقليدياً؛ فقد كانت بين الحين والآخر تسرح بخيالها بعيداً عن «بانوراما شكشوك» والفيوم بأكملها، وتتذكر صلاح جاهين (25 ديسمبر 1930 - 21 أبريل 1986)، الذي كانت تنظر إليه بوصفه «الأب الروحي»، وتردد بعض قصائده، وتنهيها بأسى: «الله يرحمك ياعم صلاح».

أصدق من قال إن سعاد حسني ماتت يوم أن غيب الموت صلاح جاهين، فهي التي قالت إن حياتها انتهت بوفاته و{الدرس انتهى» برحيله، فقد كان «المُعلم» الذي تتلمذت على يديه، وعوضها عن الكثير من النعم التي حُرمت منها في طفولتها، وبعد أن ضاقت بها سبل العيش في لندن أثناء رحلة علاجها، لم تجد سوى رباعياته لتسجلها لحساب إذاعة البي.بي.سي التابعة لهيئة الإذاعة البريطانية، وتستغني بدولاراتها القليلة عن الشيكات البنكية التي انهالت عليها من «فاعلي الخير» وأبت عليها كرامتها أن تقبلها.

مع الساعات الأولى للصباح بدأت ألملم أوراقي وأجمع شرائطي تمهيداً للعودة إلى القاهرة، وطوال الوقت لم أشعر في أية لحظة بأنني كنت في «مهمة صحافية»، اعتبرها الكثيرون في ما بعد «سبقاً إعلامياً» كبيراً وإنما «مهمة إنسانية» ملكت عليَ مشاعري، وأزحت من خلالها عبئاً ثقيلاً جثم طويلاً على صدر فنانة عزيزة على قلوب الكثيرين، ممن أحبوا فيها موهبتها ذات الوجوه المتعددة، وأتصور أنها استشعرت ذلك أيضاً، بدليل أنها حملتني رسالة لشقيقتها في شقتها الكائنة بحي الزمالك الأرستقراطي، وغادرتها وكأنني أعرفها منذ زمن طويل، وبقي صوتها يرن في أذنيَ، وهي توصيني: «ابقى كلمني يا طيب»، ولم أفعل لفرط خجلي، وإحساسي بأنه يكفيني فخراً أنني جلست معها، واستمعت إليها، وشرفت بالاقتراب منها في اللحظات الأخيرة من حياتها!

نعم كانت اللحظات الأخيرة من حياتها؛ فقد عادت إلى عزلتها، واحتجبت عن الأنظار تماماً، وبعد أن غادرت مصر إلى لندن عادت إليها في صندوق على متن طائرة، بعد أن قيل إنها «انتحرت»... وقيدت الجريمة «ضد مجهول»!