صندوق الذاكرة الأسود
ثمة "صندوق أسود" في ذاكرتي، وطائرة تصلح للطيران رغم حطامها! هذا ما أدركته يقيناً وأنا أدوّن مشاهداتي خلال فترة غزو النظام العراقي بعد 22 عاماً من الصمت، لم أكن أحفل بالكتابة، لأنني كنت مستعدة للحديث عنها لو سئلت، كما تم في بعض مجالس صغيرة، وفي الكتابة الإنشائية للمدرسة قبل أكثر من 12 عاما. ولكني كنت مهيأة لتأليف كتاب صغير قبل أيام، عنوانه "الطفلة التي اختبأت تحت السلم"، أو "أحلام على إيقاع المارش العسكري"، أو ربما "الجندي ذو الشعر البرتقالي" لست أدري؟! عناوين كثيرة متناقضة حزينة وطريفة وحميمة خطرت في بالي وأنا أسترسل في تصوير تلك الأحداث بسطور متتابعة من الكلمات على "تويتر"، كل هذا بسبب مسلسل "ساهر الليل" الذي باغتتنا حلقات جزئه الثالث، أو بالأصح باغتتنا الذاكرة التي نزعت عنها أناقة الكلمات لتحاور الجميع: المثقف، والقارئ العادي، والأمّي بلغة واحدة؛ "الصور" المتجسدة أمام أعيننا، وفيها يرى كل شخص ما لا يراه الآخرون، بحسب مخيلته، وخبراته، وذاكرته الشعورية حيالها، مقروءة بلا تكلف. لم تكن النقاشات والكتابات التي أثارها المسلسل فنيةً بالقدر الذي استنطقت فيه ذاكرة الكثيرين، لينهال الحديث بنحو غير مسبوق عن تجارب تلك الفترة، وذكرياتها، وما تعلق حولها بشكلٍ مستفيض، فمعظم الأعمال التلفزيونية والإذاعية التي قدمت عن فترة الغزو، ظهرت بقالب وثائقي أو كوميدي، ولم تخرج عن إطار استذكار المناسبة. بينما حاول مخرج مسلسل "ساهر الليل" صياغة قصة بمنظور إنساني، محايد، من خلال نسق درامي متصاعد، تتشابك أحداثه مع فترة الغزو، وكلما بدا شخص، أو بكى، أو صرخ أو حتى ابتسم... كانت الصور تمس قلوباً كثيرة بتيار إنعاش كهربي حد القتل! على مستوى الشعبين: الكويتي، والعراقي كذلك الذي عانى الويلات ودفع ثمن أخطاء رئيسه الأرعن غاليا من تاريخه وحياته. اللافت الأهم في تلك التدوينات رغم بعض التطرف؛ نقاء أغلبها من التلاعب السياسي، بدءا بالعلاقة التاريخية بين الشعبين، ومرورا بتعميم يعتبر من أرقى المبادرات الدولية الرافضة لممارسات تعزيز ثقافة الكراهية، والذي أصدرته وزارة التربية في الكويت بعد التحرير للتأكيد على تسمية: "غزو النظام العراقي"، مقرونا بكلمة "النظام" في حكمة تدرأ الكثير مما لا تحتمله الأراضي والشعوب بعد، كذلك عبر اتفاقيات تؤثر السلامة خاصة من الجانب الكويتي متجليا بالكثير من المواقف آخرها التوقف عن المرحلة الرابعة من ميناء مبارك وغيرها. ورغم هذه الهدهدة المتواصلة، ترتدي الذاكرة ثوب الحداد ولكن لا تطلب الثأر، فقط كي لا تنسى.