الثقافة والسياسة!
يبدو واضحاً لأي متابع للشأن الكويتي، من داخل أو خارج الكويت، أن نبرة الحدث السياسي باتت عالية وطاغية على كل ما سواها في المجتمع، وأن هذه النبرة ما عادت حكراً على النقاش المحتدم في قاعة عبدالله السالم بين السلطة التشريعية، ممثلة في أعضاء مجلس الأمة، والسلطة التنفيذية، ممثلة في سمو رئيس مجلس الوزراء والوزراء، لكن الشأن السياسي صار زاداً يومياً حاضراً يفرض نفسه بقوة على مائدة كل أسرة، وحديثاً شيقاً في كل الدواوين، ومادة ثرية لكل شبكات التواصل الاجتماعي في الكويت. وهذا في المحصلة، أدى إلى طغيان الحدث السياسي على باقي أحداث المجتمع، الاجتماعية والفكرية والاقتصادية والعلمية والثقافية والفنية والرياضية، بل وعلى عموم مناحي الحياة. لقد تمطت وتلوّنت وتشعبت تفاصيل المشهد السياسي، حتى أن شرائح كثيرة من المجتمع، أصبحت تحت تأثيرها. فالاقتصاد يتذبذب تحت سطوة وآثار تخبط القرار السياسي، دون التفكير برؤية اقتصادية جديدة تتماشى مع متطلبات اللحظة الراهنة خليجياً وعربياً وعالمياً، وهكذا غرقت سفينة الاقتصاد في بحر السياسة. والحال لا يختلف مع الحدث الاجتماعي ووقوعه المباشر تحت تأثير مجريات الحياة السياسية. فليس من حديث لأي تجمع كان سوى مستجدات المشهد السياسي، والصراع بين أعضاء مجلس الأمة والوزراء. حتى أن مفردة "الاستجواب" غدت واحدة من أكثر المفردات تداولاً في أحاديث الناس. ولسنا نبتعد كثيراً إذا ما قلنا إن الحدث السياسي اليومي استطاع بجدارة إزاحة أي نشاط فكري أو ثقافي أو فني عن الواجهة، ووحده استفرد بالاهتمام الشعبي.
إن وعي أي مجتمع من المجتمعات هو وعي جمعي، وبالتالي فإن تسليط الإعلام المرئي والمسموع والمقروء الضوء على أي قضية، صغيرة كانت أو كبيرة، سرعان ما يشكّل منها قضية رأي عام، وسرعان ما تأخذ حجماً قد يكون أكبر بكثير من حجمها، فما بالك إذا انشغلت وسائل الإعلام في زمن ثورة المعلومات وشبكات التواصل الاجتماعي والمحطات الفضائية بمتابعة حدث بعينه، والتركيز عليه من مختلف الزوايا. لقد انشغلت مختلف فئات المجتمع الكويتي بالحدث السياسي دون سواه، وهذا جاء على حساب الانشغال بأحداث أخرى مهمة، وعلى رأسها الحدث الفكري والإبداعي والأدبي والثقافي. فالكويت عُرفت في محيطها الخليجي كمنارة للفكر والفن والثقافة، والكويت كانت على الدوام سبّاقة في قيادة العمل الثقافي العربي، وهذا ما أكسبها حضوراً ومكانة ثقافية لا خلاف عليهما. مؤكد أن الحدث السياسي ليس وحده من أزاح الكويت عن مكانتها الفكرية والثقافية والفنية، ومؤكد أيضاً أن انحدار الثقافة في الكويت وتقهقرها له مسبباته الكثيرة، لكن الثابت هو أن طغيان جرعة الحدث السياسي، في السنوات القليلة الماضية، وتركيز وسائل الإعلام عليه، استحوذ على اهتمام الناس، وهمّش باقي الأحداث، حتى وصل الأمر إلى حد التندر بمن يهتم بالشأن الفكري أو الثقافي. إن تقدم وتطور أي أمة من الأمم إنما يرتبط بمفكريها وعلمائها ومبدعيها وكتّابها وفنانيها، وهذا يتطلب تشجيع البحث العلمي والفكري، مثلما يتطلب زيادة جرعة الاهتمام بالعمل الثقافي والفني، وأخيراً يستلزم مزيداً من الحرص والانتباه إلى المفكر والمبدع والمثقف. شكّلت الديمقراطية في الكويت على الدوام فخراً للكويت والكويتيين، لكن المطمح الأول لأي ديمقراطية في أي دولة من الدول، هو خدمة الوطن والمواطنين، والحرص على تطوير والارتقاء بمختلف مناحي الحياة العلمية والاقتصادية والفكرية والثقافية والفنية، وبالتالي فإن تجاهل أمر الفكري والثقافي والفني، على حساب السياسي، إنما سيترتب عليه، وجود أجيال بعيدة كل البعد عن الفكر والثقافة والإبداع، ولا أظن أن خسارة كبيرة يمكن أن تلحق بمجتمع بقدر هذه الخسارة المؤلمة!