يجب أن تصل الرسالة!
كما كان افتراضي سابقا، تصدت قوات الأمن الخاصة للمتظاهرين في مسيرة "كرامة وطن" بشكل شديد وغير مسبوق في التاريخ السياسي الكويتي، وحرق صانع القرار بذلك عدة مراحل سياسية قادمة كان من الموضوعي أن يسير بها الحراك الشعبي تصاعديا على سبيل رفض تعديل آلية الانتخاب، وهي الآلية التي تمثلت باختزال حق الناخب من اختيار أربعة مرشحين إلى واحد فقط.هذه المواجهة الأمنية الشديدة للتظاهرات، والتي انطلقت دون أي استفزاز من قبل المتظاهرين، بل بدأت قبل انطلاق المسيرة فعليا بأكثر من ساعة ضد البوادر الصغيرة الأولى للتجمعات، وقد كنت شاهد عيان على ذلك في أكثر من موقع، أقول إن هذه المواجهة الأمنية قد كشفت أن قرار قمع المتظاهرين وبقسوة مفرطة كان متخذا مسبقا، كما أن الحجة التي استخدمتها وزارة الداخلية بأنها ستمنع المسيرات حفاظا على حركة المرور وعدم عرقلة مصالح الناس قد سقطت سقوطا ذريعا على يد رجال الأمن أنفسهم، فهم الذين قاموا بإغلاق مختلف الطرقات الرئيسة والجانبية دون داع، فخنقوا بأنفسهم حركة المرور، فقط لأجل قمع التظاهرة ومنع الناس من الوصول إليها، وهو ما لم يفلحوا فيه على كل حال.
المشهد قد انفجر فعلا، وما عاد فقط معرضا للانفجار كما كنت أردد في السابق، والأمور في غليان شديد وتصاعد لا يمكن توقع مساراته واندفاعاته في كل الاتجاهات، والقضية قد تحولت من مجرد اعتراض على آلية الانتخاب، كما كانت مطالبات المتظاهرين سابقا، إلى مواجهة مفتوحة الآن، فعندما يخرج قرابة المئة والخمسين ألفا كما تقول التقديرات في مسيرة حافظت على سلميتها حتى اللحظة الأخيرة، ويتم قمعها وضربها وترويعها أمنيا بالطريقة التي حضرناها وشهدناها، فهذه رسالة واضحة بأن هؤلاء لا يعنون شيئا في نظر متخذ القرار، وأن عواقب ضربهم وقمعهم لا تدخل في حساباته، ولذلك فالتعويل على حكمة واتزان رد الفعل عند هؤلاء الناس، وهم من لا يربطهم رابط سياسي متين ولا ينضوون تحت راية حزب أو أحزاب سياسية محددة، سيكون تعويلا ساذجا. بغض النظر عن صحة المسيرة قانونيا من عدمه، فإن إدارة الدولة وسياسة الشعب تقوم على الحكمة والأناة والرشد قبل أن تقوم على التلويح بعصا النصوص القانونية والاستناد إليها، وبالتالي فإن فتح جبهة المواجهة المفتوحة هذه مع أغلب، بل كل شرائح المجتمع، التي وجد أبناؤها في تلك المسيرة، لن يعود بالمكسب للنظام أبدا، فحتى إن تم قمع التظاهرات وإسكات الحراك الشعبي المعارض حاليا لبعض الوقت، فإن الأمور إلى سوء أكيد على المدى البعيد.تقوم الأنظمة، وبالأخص في هذه البقاع من العالم على ولاءات الشعوب لها على الصعيد الاجتماعي قبل السياسي، وهو الأمر الذي ضمن للأسر الحاكمة في بلداننا الاستمرار في الحكم طوال مئات السنوات الماضية، وعندما تخسر هذه الأنظمة هذه الولاءات التي كسبتها بشتى الطرق من خلال سوء الإدارة ناهيك عن استخدام البطش والقمع، فإنها ستحرق رصيدها الأساس، ولن يبقى لها شيء يذكر. ما أخشاه، وعلاماته تقول إنه واقع لا محالة، أن يتحول هذا النزاع السياسي الذي لا تزال أطرافه تدّعي أنه يتكئ على تمسك كل طرف منها بالدستور، وبمضامين هذه الدولة المدنية التي زعمت أنها ديمقراطية، فكفلت للجميع التعايش بقبول إلى حد ما طوال العقود السابقة، أقول أن يتحول هذا النزاع اليوم إلى عداء تجاه أسرة الحكم والنظام برمته، وأن تصبح المواجهة في هذا الإطار الملتهب الذي سيحرق الشيء الكثير، بل قد يحرق كل شيء. كما أن الخطير حقا أن تستخدم في هذا الصراع، المحاور العرقية والطائفية، كما هو حاصل حاليا، لتصبح المكونات المجتمعية في مواجهة بعضها البعض، بل في تفكك داخلي فيما بين أبنائها، وذلك عبر إخراج هذا النزاع السياسي البحت من دائرة أنه نزاع سياسي خالص، إلى دائرة أنه نزاع مجتمعي ما بين تلك المكونات التي تقف في صف النظام وتلك التي يجري اتهامها بأنها تسعى إلى إسقاط الحكم، وترتبط بأجندات خارجية وغير ذلك من الخيالات المجنونة.هذا الشعب، بكل مكوناته، سيظل على هذه البقعة من الأرض، بإذن الله، وزرع هذا الجنون الفكري بين أبنائه لن يؤدي إلا إلى شرذمته واحراقه، ولن يكون في هذا خير لأي طرف من الأطراف وعلى رأس هذه الأطراف النظام.نحن الآن في مرحلة غياب الحكمة والعقل، والمواجهات إلى تزايد، ويد القمع الحديدية لم تفلح أبدا في أي بقعة من العالم، ولن تفلح هنا، والتاريخ القريب المجاور يشهد، والطرف الحري بأن ينحاز إلى الحكمة، بعدما صار الحراك الشعبي على هذه الدرجة من الالتهاب، هو طرف النظام والأسرة الحاكمة، وسنظل حتى اللحظة الأخيرة يحدونا الأمل بأن قلب الحكمة لا يزال نابضا هناك، وإنا لله وإنا إليه راجعون.