حين قامت "ثورة 25 يناير"، في مصر، كانت ترسانة الإعلام المملوكة للدولة كلها مرهونة لمصلحة النظام السابق، ومسخّرة للدفاع عنه وتطليخ سمعة أعدائه، كما كان جزء ليس قليلاً من وسائل الإعلام الخاصة والحزبية يعاني تدخلات من قبل السلطة، بشكل يحد من حريتها أو يحرف أداءها.

Ad

لذلك، فقد راح البعض يقلل من أهمية الإعلام في العمليات السياسية، مستشهداً باندلاع الثورة رغم تلك الهيمنة الواضحة للنظام السابق على جزء كبير من الجسم الإعلامي.

لقد فات هؤلاء أن مارداً إعلامياً جديداً كان قد بدأ بالبزوغ والتأثير، وأن طبيعته ووسائله وطريقة النفاذ إليه، غلت يد السلطة التنفيذية الباطشة عن تحجيمه، بل إنها قلصت قدرتها أيضاً على تقصي توجهاته والمواقف التي تتبلور عبره.

لم يكن الإعلام في نهاية عصر مبارك إذن مقتصراً على "الصحف القومية" (المملوكة للدولة) والتلفزيون والإذاعة الرسميين، كما أنه لم يكن أيضاً مقتصراً على الفضائيات والصحف الخاصة والحزبية، لكن لاعباً جديداً كان قد تمركز في المشهد الإعلامي الواسع، وراح يحفر لنفسه مكانة مهمة، ويستقطب المزيد من الجمهور يوماً بعد يوم.

إنه "الإعلام الجديد"، أي أنشطة الإعلام المختلفة التي يتم بثها عبر شبكة الإنترنت، وهي الشبكة التي بات عدد من يستخدمها في مصر اليوم نحو 23 مليون مستخدم.

وفي قلب تلك الأنشطة بالطبع مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصاً موقعي "فيس بوك" و"تويتر"، اللذين يستخدمهما نحو عشرة ملايين مستخدم.

كان نظام مبارك يفتح عينيه على اتساعهما لمراقبة أداء "وسائل الإعلام التقليدية"، ويكرس هيمنته على التلفزيون والإذاعة الرسميين و"الصحف القومية" عبر التمويل وتعيين القيادات، ويمارس الضغوط الخشنة والناعمة على مالكي الفضائيات والصحف الخاصة، أو يمنحهم الرخص أصلاً لأنهم "حلفاء وأنصار"، فيضمن إبقاء الرسائل الإعلامية في إطار معقول يحقق مصالحه ويصون بقاءه. وكان الثوار والمحتجون والناقمون يذهبون في هذا الوقت إلى "القناة الثانية"... القناة التي لم تكن تحت السيطرة الكاملة من النظام السابق؛ إنها "قناة الإعلام الجديد"، التي استخدمها الثوار استخداماً بارعاً في بلورة الشعور بالغضب، ثم تجنيد الأنصار، فالتعبئة، فالحشد، وصولاً إلى تحويلها إلى "بنية اتصالية أساسية" في التحركات الميدانية.

لقد لعب الإعلام لعبته الكبيرة في مواجهة نظام مبارك، لأن هذا النظام نظر إلى الإعلام نظرة قاصرة، إذ اختصره في مجموعة الفضائيات والصحف والإذاعات، ناسياً المارد الكبير المسمى "الإعلام الجديد".

شيء من هذا القبيل يتكرر راهناً؛ فبعض المعلقين والمحللين والسياسيين يقرأ الصحف التي تصدر في القاهرة، ويشاهد الفضائيات التي تبث من "ماسبيرو" (مقر مبنى التلفزيون الرسمي) أو "مدينة الإنتاج الإعلامي"، ويتصفح المواقع الإلكترونية، ويتبادل الحوارات مع أصدقائه على "فيس بوك"، ثم يذهب إلى سريره مرتاحاً، معتقداً أن "فرص الإسلاميين تتراجع"، لأن "الجميع يهاجمهم، وينتقد ما ظهر من استعلائهم، وادعائهم، وتراجعهم في وعودهم، وقصور أولوياتهم".

نحتاج هنا أن نُذكّر مجدداً بتعريف الإعلام، بعد كل التغيرات والتطورات التي شهدها خلال الفترة القصيرة الماضية؛ فإذا اتفقنا على أنه "نشاط اتصالي يتخذ سمت الذيوع، من خلال رسالة، يوجهها مرسل، عبر وسيلة معينة، إلى مستقبل مستهدف، في بيئة اتصال، بهدف إحداث أثر ما، فيظهر لدينا أن ثمة "إعلاماً آخر" ينشط في بيئة الانتخابات الرئاسية المنتظرة في مصر، كما حدث في الانتخابات البرلمانية، التي جرت في نهاية العام الماضي، وأن هذا الإعلام له مجال تأثير لا يقل نفاذاً وفاعلية عن "الإعلام التقليدي" أو "الإعلام الجديد".

إنه ببساطة "إعلام المنابر"؛ إذ يستغل كثيرون من المحسوبين على تيار "الإسلام السياسي" عشرات آلاف المساجد المنتشرة في أعماق البلد، ليحولوها للأسف الشديد إلى منابر للدعوة السياسية.

لقد أظهرت دراسة علمية أجرتها شركة "أبسوس" العالمية المتخصصة في بحوث الإعلام أن الانتخابات البرلمانية المصرية التي انطلقت في 28 نوفمبر الفائت، والتي أسفرت عن فوز الإسلاميين بأكثر من ثلثي مقاعد مجلس الشعب، شهدت إنفاقاً قياسياً على أنشطة الإعلان عبر وسائل الإعلام التقليدية.

تقول الدراسة أن حجم الإنفاق عبر تلك الوسائل تجاوز أربعة أضعاف ما أنفق في آخر انتخابات شهدها عصر مبارك، وهي الانتخابات التي جرت في نهاية عام 2010، لكنها تشير أيضاً إلى أن معظم هذا الإنفاق جاء من الأحزاب المدنية والليبرالية وليس الأحزاب ذات الإسناد الديني.

بعض الأحزاب المدنية التي خاضت الانتخابات أنفقت، حسب تلك الدراسة، نحو ستة ملايين جنيه مصري (مليون دولار أميركي) للفوز بمقعد واحد في البرلمان، بينما لم ينفق حزب النور السلفي مثلاً أي أموال عبر وسائل الإعلام التقليدية.

من أين أتى إذن حزب النور السلفي بالأصوات التي مكنته من الفوز بربع مقاعد البرلمان، إذا كان لم ينفق على الدعاية عبر التلفزيون والصحف؟ لا شك أنه وجد وسيلة إعلام أكثر فاعلية ونفاذاً وانتشاراً وتأثيراً لحمل رسائله!

تنطلق الدعاية الانتخابية لبعض المرشحين الرئاسيين في مصر من المساجد، ويستخدم بعض الخطباء المنابر للحشد والتعبئة لمصلحة مرشحين معينين، كما سبق أن حدث في الانتخابات البرلمانية، وقبلها في التصويت على التعديلات الدستورية في مارس من العام الماضي.

ينشغل المجال العام في مصر اليوم بمحاولة تنظيم التغطية الإعلامية والدعاية الانتخابية، بما يحد من انفلاتاتها وأخطائها، لتحسين الأجواء التي تجري فيها الانتخابات الرئاسية تقليل المشكلات التي تنال من عدالتها، لكن أحداً لا يهتم بهذا الخرق الجنوني الواسع، الذي لا يهدد الانتخابات وحدها، ولكنه يهدد السلام الاجتماعي والتماسك الأهلي، ويضرب العملية السياسية في هذا البلد في مقتل.

المشكلة الكبيرة التي تواجهنا في هذا الصدد أن معظم المرشحين المحسوبين على تيار "الإسلام السياسي" يصورون لنا أن تورط المنابر في الدعوة لمرشح رئاسي بعينه أو حتى حض المصلين على التصويت "من أجل الشريعة" هو من أعمال المساجد، ويرفضون تقييد حرية الخطباء في هذا الأمر، أو منع تورط المساجد في أعمال الدعاية.

أما المشكلة الأكبر، فتكمن في أن الدولة ستكون مغلولة اليد، كالعادة، عن منع هذه المخالفة أو معاقبة من يرتكبها.

سيلعب الإعلام، بأنواعه المختلفة، دوراً مؤثراً في معركة الانتخابات المصرية المنتظرة، وسيرتكب العديد من الأخطاء، التي سيمكن تدارك آثارها بشكل أو بآخر، لكن ما سيفعله "إعلام المنابر" في هذا الصدد سيكون أخطر مما نعتقد، وأكبر من قدرتنا على التحمل.

* كاتب مصري