في كل حديث أو حوار مع من ألتقي بهم من السياسيين والإعلاميين وعموم المهتمين بالشأن السياسي، أجد أن نبرة الإحباط مما يجري من صراعات وأزمات وشلل تنموي هي سيدة الموقف، وكذلك عند كل نقاش أجريه مع أي من النخب الفكرية، صار نادراً أن أجد من يمتلك رؤية متبلورة واضحة لكيفية الخروج من هذا المشكل القائم والتدهور المستمر. هذه الصراعات والأزمات وهذا الإحباط والتيه إزاءه، انعكس بدوره على واقع الكتابة الصحفية اليومية عن هذه الشؤون، فقد تحولت أغلبية الكتابات الصحفية إما إلى اجترار لتعليقات وردود أفعال متشابهة، أحياناً إلى حد التطابق، لمجرد وصف ما يجري والتعليق عليه بذات الروح التصادمية المتنازعة أو الروح المحبطة، وإما أنها كتابات من أطراف في الصراع، تأتي لتضيف مزيداً من الحطب والوقود لنار هذا السيرك الكبير الصاخب ليل نهار.
ولهذا صار من الصعب على الكاتب الصحافي المستقل أن يجيء اليوم بشيء متميز مختلف عن هذا السائد، وإن هو فعل كان كمن يغرد خارج سرب "ما يطلبه المشاهدون"، وذلك لأن الشارع والجمهور بدوره قد ابتلعاه بالكامل تقريباً في دوامة هذا الذي يجري من صراعات ومماحكات وعبثية لا محدودة. وهناك أيضاً، وهذا أمر يستحق الانتباه والتفكر، ظهرت فئة ممن يسعون لإظهار ما يجري من عبث وتخبط بمظهر المعقول المقبول الممكن الاستفادة منه بشكل من الأشكال، كمثل أن يقول هؤلاء إن استجوابين مختلفين لوزير المالية، من قبل نواب من كتلة الأغلبية نفسها، وفي التوقيت نفسه، وبمحاور كان من الممكن، منطقاً وموضوعاً، دمجها وضم بعضها إلى بعض لصناعة استجواب أكثر قوة وتكاملاً، هو شيء مفيد ولا مشكلة فيه، وإنه ليس من قلة الترتيب والتنسيق والتعاون في شيء... ولن أقول من العبث وتضييع الوقت والجهد!هذا المشهد العام المتدهور على كل الصعد، تشابكت خيوطه اليوم إلى الحد الذي صار يستعصي على الحلول البسيطة المباشرة، وصار يتطلب قرارات صعبة، بل مؤلمة، وتغييرات وحلول معقدة متعددة تشمل كل المستويات. إلا أن هذا، وكما هو واضح من متابعة حراك المشهد وطريقة تفكير وتصرفات من يديرونه، لا يبدو متاحاً ناهيك عن أن يكون قادماً في القريب، وذلك لأسباب عديدة ليس هنا متسع لتناولها.في السنوات الماضية، وقد كتبت عن هذا كثيراً وتحدثت عنه في أكثر من محفل، كنت أُمنِّي النفس عند وقوع أزمة كبرى في الكويت أن تكون هي نقطة "القاع" الأخيرة التي كنا بحاجة إلى الوصول إليها كي يحصل الارتداد نحو الأعلى، لأكتشف بعد ذلك أنه لاتزال هناك نقطة أكثر انحداراً وأن هناك قاعاً أعمق وأزمة أشد ضراوة في الأفق. واليوم ومع كثرة الأزمات والانحدارات والقيعان، آمنت ألا حدود للانحدار الممكن والتدهور المحتمل، وأن المستقبل لن يتوانى عن إخراج مفاجآت وأزمات جديدة من جيبه، لهذا فما عدت أعول على أي أزمة مهما بدت عاتية وضاربة في حينها لأن تكون هي "لحظة" الوعي المرتقبة لإدراك خطورة ما يجري من تدمير، يبدو وكأنه مبرمج ومخطط له للإتيان على هذا البلد عن بكرة أبيه. وصرت، عوضاً عن ذلك، أؤمن بأننا نحتاج إلى لحظة "فشل" كبرى أو "كارثة ساحقة"، مهما كانت أليمة جداً وقاسية، لتكون كافية لإيصال رسالة كطعنة نافذة لكل أطراف هذا الصراع العبثي المستمر بأن الأمور ما عادت تحتمل أكثر، وأنها النهاية التي ستعم وستطحن الجميع بلا استثناء حقاً، وألا منجى منها إلا بالتخلي عن كل هذه الصراعات التي ستبدو هامشية وساذجة آنذاك، وهي كذلك فعلاً، لأجل إنقاذ هذا البلد.لحظة فشل كبرى أو كارثة ساحقة مترعة بالألم الضارب والذهول الكبير كذلك الذي شعرت به الكويت يوم حصل الغزو، لا أعاده الله علينا.أدرك أن السطور أعلاه قاسية جداً، وقد لا يتقبلها، وربما يهاجمها كثير منكم، ولكنها حقيقة ما أؤمن به، وهو خلاصة ما سمعته وخرجت به من حوارات عديدة مع مجموعة من خيرة عقول هذا البلد، وليس في مثل هذا الأمر مجاملات أو "تزويق".
مقالات
في انتظار لحظة فشل كبرى!
10-05-2012