كشفت شبكات الإنترنت الاجتماعية عن حياة الناس بشكل لم تسبقها إليها وسيلة أخرى من قبل، فاهتمامات الناس ومعتقداتهم وأنماط شخصياتهم وأماكن وجودهم وطبيعة أنشطتهم وغير ذلك صارت جميعها مبذولة ومنشورة للعلن على هذه الشبكات، سواء أكان ذلك بيدهم وهو الأغلب، أم بيد غيرهم، وقد كتبت منذ مدة مقالاً قلت فيه إن هذه الشبكات قد قتلت الخصوصية الشخصية، وهي بالفعل قد فعلت ذلك.
وهذا الأمر يذكرني بموضوع آخر يرتبط به ولعل بعضكم يعرفه، وهو أنه ما عاد من الممكن لأي شخص أن يخفي آثاره اليوم أمام أجهزة الأمن التي صار من الممكن لها من خلال تتبع ما يسمى بالبصمة الإلكترونية المتخلفة عن أي شخص من خلال استخدامه للهاتف النقال والكمبيوتر والإنترنت وبطاقات السحب الآلي وكل البطاقات المتضمنة لشرائح إلكترونية ووثائق السفر... إلخ، أن ترسم خريطة دقيقة لأماكن وجود هذا الشخص وحركته وطبيعة أنشطته إلى حد بعيد، فما بالكم وقد أضيف إليها اليوم نشاطه المحموم على شبكات التواصل الاجتماعي!وبالعودة إلى بداية المقال، سأقول إن هذه الشبكات جعلت الواحد منا يكتشف معتقدات الناس من حوله وآراءهم وأفكارهم، وبالأخص أصدقاءه وأصحابه المقربين بشكل أكبر بكثير عما كان عليه الأمر في السابق. اكتشف الواحد منا كيف أن لأصدقائه وأصحابه آراء صعبة على القبول والهضم أحيانا، وآراء بعيدة جدا عن الموضوعية ومتحيزة إما لسبب فئوي أو طائفي أو ما شابهه في أحيان أخرى.وهنا يجد الواحد منا نفسه في مأزق الاختيار ما بين مناقشتهم فيها ومخاطرة الدخول في الجدل العقيم وغالبا الخلاف الذي قد يهدد علاقته في كثير من الأحيان، أو تجاهل الأمر برمته وعدم الانجراف للخوض في هذه المناقشات غير ذات الجدوى، وذلك حفاظا على الصداقة وحرصا على الصحبة.والحقيقة أني ممن يؤثرون الثانية، حيث أحرص أشد الحرص على عدم الخوض في مواطن الخلاف على شبكات التواصل الاجتماعي مع من أقدر وأحترم من أصدقائي وأصحابي ومعارفي، وكلهم مقدر ومحترم، وذلك حماية لهذه العلاقات التي لا أود أن أخسرها وأتمنى لها أن تظل طيبة وإيجابية، خصوصا أن مثل هذه النقاشات سيكون علنا أمام جمهور هذه الشبكات المتعطش دوما- كما نشاهد ونرى- إلى تحويل كل حوار ونقاش ولو كان بسيطا إلى مصارعة ومناطحة يحلو على أنغامها التصفيق والتشجيع والفزعة، وبدلا من ذلك فإني أؤجل النقاش مع هؤلاء الأصدقاء والأصحاب والمعارف لتلك الفرص التي تجمعني بهم وجها لوجه، فيطيب الحوار ويحلو في ظروف أكثر أريحية وفي ظروف أكثر وداعة وإيجابية، ودون وجود ضغط الجمهور والتشجيع، وهو الذي بطبيعته سيجعل المرء يتحزب لرأيه حتى لو تبدت له الحقيقة، إلا من رحم ربي!لكن المشكلة حقا تكمن في أولئك الذين لا يفهمون هذا، ويصرون على جر الواحد عنوة لنقاش تدرك يقينا أن مآله سينتهي إلى جدال عقيم لا طائل من ورائه، وتحاول لذلك بقدر ما تملك تحاشيه والاعتذار عنه، وبدلا من أن يقدروا هذا منك يظنونه ضعفا وجبناً ويشاكسونك فيه. مشكلة مزعجة لا يدري الواحد ماذا يفعل حيالها فعلا، اللهم إلا الصد والإعراض والتجاهل.
مقالات
لا خصوصية... والكثير من الخصومات!
30-08-2012