السير حثيثا إلى أمس
رغم كل التنظيرات النقدية حول «موت المؤلف»، وما تقترحه من ضرورة النظر في بنيوية النص لا ذات الكاتب أو ما يتعلق بها من أنساق ثقافية أو فكرية أو اجتماعية، فإننا – معشر القراء – كنا ولانزال نضع المؤلف وحيثيات حياته في قمة أولويات قراءتنا لأي نتاج أدبي، شعراً كان أم سرداً. ولعل ذلك الفضول يبدو أكثر إلحاحاً ونحن بصدد القصة القصيرة والرواية.منى الشمري في مجموعتها القصصية «يسقط المطر.. تموت الأميرة» لا تجشمك مشقة الافتراض والتخمين فيما إذا كانت موجودة في قصصها أم لا، ذلك أنها تترك آثار أقدامها، أو بالأحرى آثار أقدام ذاكرتها المتخمة بالصور والأمكنة على معظم صفحات المجموعة. وهي تفعل ذلك قاصدةً – ربما – أن تشركك في أتون ذكريات لا تنفك تنخز في عِرْقها طالبة الخلاص والانعتاق من قمقم الروح.
تبدأ دلائل حضور ذات الكاتبة في هذا الكتاب الصغير اللطيف منذ صورة الغلاف. فالباب المفعم بالمعنى والفن والمعبأ برائحة الزمن، هو باب حقيقي وجزء لا يتجزأ من نسيج النص، تماماً كما هو جزء لا يتجزأ من نسيج الذات المعلقة بوشيجة مكانه وموقعه «في الفحيحيل، كما هو مذكور في ظهر الصفحة الأولى. والباب فوق ذلك التقطتْ صورته «منيرة الشريفي» التي أعتقد أنها ابنة الكاتبة أو تمتّ لها بآصرة قوية. وبذلك تتأكد مسألة الذاتية وتتأصل. وحين نوغل في قراءة نص «تموت الأميرة..» ندرك أن الباب الشاخص أمامنا أضحى باباً من لحم ودم، ونكاد نجزم أنه هو بعينه الذي استبدله الأب «في القصة» بباب الخشب الهشّ الذي لم يستطع أن يصمد في وجه تلك الليلة العاصفة المطيرة.وحين أعيد النظر في الإهداء الشخصي الذي كتبته لي الكاتبة في الصفحة الأولى، تطالعني جملة: «في دروبي العتيقة أتمنى أن تحتضنك التفاصيل». فتعلق في نفسي - الأمّارة بالتنقيب في ظلال الكلام ولاوعي القلم- (ياء) المتكلم في كلمة «دروبي»، فأرى تلك «الدروب» ذات نسب ووشيجة بذات الكاتبة لا محالة. وحين أقلب الصفحة تكتمل دائرة الآصرة بإهداء العمل إلى «نصار الشريفي» الذي لا يمكن أن يكون إلا ابناً للكاتبة حين تخاطبه بقولها: «يحدث أن تنجب امرأة حزينة أباً ليتمها ورفيقاً لعزلة الروح... فتكون أنتَ». ثم تنثال الأمكنة بأسمائها المحضة: العدان، شاطئ الكوت، الفحيحيل، شارع مكة، جبل وارة، شارع الدبوس، الأحمدي، شارع سنان، صفاة البدوية، الشعيبة... إلخ. أما الزمان فيبدو من المظاهر المعيشية وملابساتها أنه إبان عقد الستينيات من القرن الماضي أو قبلها بقليل، وهو بذلك يشي بعمر الكاتبة ومعاصرتها لتلك المشاهد وانصهارها بذكرياتها وصورها التي لاتزال متوهجة ونابضة في وجدانها. أما الأحداث على مدى القصص الإثنتي عشرة، فلعل الخيال المختلَق في تضاعيفها يبدو شحيحاً، فجلها أحداث لا يستبعد القارئ حدوثها بتلك السياقات. ولعل الكاتبة إن لم تعشها شخصياً فلعلها سمعت بها من الجيران أو من الوسط الاجتماعي وشكلت مخزوناً آخر تمتاح منه ساعة الكتابة.ولكن يبقى الابتكار الفني الأكثر سطوعاً متمثلاً في تقنية المدخل المعنون: «السير حثيثاً إلى أمس»، حين ابتكرت الكاتبة الأسلوب الحكائي الأمثل للدخول إلى التفاصيل المبعثرة. وذلك من خلال هذيان مرضي يصيب الشخصية / الراوية بعد حادث مروري، فيتركها «بذاكرة مثقوبة ويأخذها إلى مدينتها في سيرتها الأولى». حقاً إن كثيراً من الأشياء المذهلة قد تحدث حين يتلقى أحدنا ضربة شديدة على الرأس، لكأن عالماً غافياً من السحر يستيقظ من عقر الجمجمة!وكما يبدو نزيف التذكّر سلساً أليفاً، تبدو لنا عجينة الكتابة سلسة أليفة أيضاً. لكأن الكاتبة أدركت أن موضوعاً كهذا لا يحتمل تقعراً ولا سفسطة ولا ألعاباً فنية تراود القارئ خلالها عن نفسه وتأخذه إلى دروب الغواية؛ غواية الكتابة وغواية التلقي. ولعله ليس خافياً على المتأمل أن أكثر الأعمال الأدبية تأثيراً ورواجاً على النطاق العالمي هي تلك التي تمتاح من البساطة ومن المأثورات الشعبية والحكايات الممزوجة بالأسطورة والخرافة، وتلك التي لا تعلو عن قامة الإنسان في هشاشته وبراءته وإنسانيته الموغلة في رحم الطفولة. نرى ذلك في «الخيميائي» و»الحب في زمن الكوليرا» و ثلاثية حنا مينة «بقايا صور» و«المستنقع» و«القطاف»، ولدى رينيه الحايك في جلّ أعمالها، والمقام قد لا يعين على الاسترسال.فشكراً لمنى الشمري التي قادتنا إلى البياض فعُدنا خِفافاً.