نجحت قوة أوروبا الناعمة في تغيير العديد من الأمور في الكثير من البلدان على مدى العقدين الماضيين، الأمر الذي يدفع الزعماء والمواطنين إلى إصلاح اقتصادهم وتبني أو تعزيز القيم والمؤسسات الديمقراطية. ومن الممكن أن تستمر قوة أوروبا الناعمة في أداء نفس الدور في تركيا وروسيا وأوكرانيا. إما هذا وإما تفقد أوروبا المصداقية والنفوذ والفرص الاقتصادية إذا ركنت إلى التقاعس عن العمل واللامبالاة.
اليوم، تهتز أركان المشروع الأوروبي... بالطبع أنا على يقين من قدرتنا على التغلب على أزمة الديون السيادية المستمرة في منطقة اليورو، وأن أوروبا ستخرج من هذه الأزمة أكثر تكاملاً وفعالية. ولكن لكي نصل إلى أوروبا الأفضل، فإن الأمر لا يتطلب حل أزمة الديون السيادية فحسب؛ بل إنه يستلزم أيضاً وضع العلاقات مع ثلاث دول رئيسة في شرق أوروبا- تركيا وروسيا وأوكرانيا- على قاعدة أكثر أمناً.الحق أنني أنتمي إلى جيل في بلدي عاش خلال فترة انتقالية من الدكتاتورية إلى الديمقراطية قبل أربعة عقود من الزمان، وكان الاتحاد الأوروبي بالنسبة إلينا بمنزلة حلم، والواقع أننا تعودنا على اقتباس تعبير أورتيغا واي جاسيت الشهير: «إذا كانت إسبانيا هي المشكلة، فإن أوروبا هي الحل».ومازلت على اقتناع عميق بأن أوروبا هي الحل، خصوصاً بالنسبة إلى المجتمعات التي تحتاج إلى تعميق- إن لم يكن تأسيس- التقاليد الديمقراطية، والواقع أن توثيق العلاقات بين أوروبا وتركيا وروسيا وأوكرانيا من شأنه أن يقدم لهذه البلدان الكثير من نفس المزايا التي كنا في إسبانيا نربط دوماً بينها وبين أوروبا.بطبيعة الحال، تركيا مرشحة بالفعل لعضوية الاتحاد الأوروبي، ولكن مفاوضات الانضمام تتحرك ببطء شديد، وهو ما يفتقر إلى الحكمة على الصعيد الاستراتيجي، لأن نفوذ تركيا العظيم في الشرق الأوسط الكبير يشكل أهمية بالغة بالنسبة إلى أوروبا (وربما أكثر من أهميتها في حد ذاتها). فمن سورية إلى كل بلدان الربيع العربي، يشكل نفوذ تركيا أهمية بالغة، ومن المؤكد أن المزيد من التعاون مع الاتحاد الأوروبي لن يحمل في طياته إلا الخير. لقد أنشأ الاتحاد الأوروبي قناة اتصال مع تركيا بشأن القضايا السياسية، ولكنه لم يحسم المرحلة النهاية من العلاقة بينهما. وإنني لأتمنى من أعماق قلبي أن تصبح تركيا عضواً في الاتحاد الأوروبي، لأن هذه الدولة المسلمة الديمقراطية الشابة قادرة على تعزيز قوة الاتحاد الأوروبي بطرق مفعمة بالحيوية.ومن المنتظر أن يحتدم النقاش حول عضوية تركيا في النصف الثاني من هذا العام، عندما تتولى قبرص الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، فالأمر بصراحة أن تركيا لن تعترف بقبرص المقسمة اليوم باعتبارها الممثل الوحيد لهذه الجزيرة. وما يزيد الأمور تعقيداً اكتشاف النفط على مقربة من الساحل القبرصي، وكل من يخطط للحفر والتنقيب هناك فمن المؤكد أنه سيتورط في نزاع بحري كبير، حيث تزعم قبرص أن الاحتياطيات تقع ضمن مياهها الإقليمية، في حين ترد تركيا على هذا الزعم بأن قبرص ليس لها مياه إقليمية، لأن قبرص، على الأقل بالنسبة إلى الأتراك، لا وجود لها.والآن تمثل روسيا نمطاً مختلفاً من عوامل التعقيد بالنسبة إلى أوروبا، فذلك أن فلاديمير بوتين، الذي عاد الآن إلى الرئاسة، قد يكون نفس الشخص الذي تعاملت معه أوروبا في الماضي، ولكن روسيا ذاتها تغيرت. فقد كشفت الموجة الأخيرة من الاحتجاجات في موسكو وأنحاء البلاد المختلفة عن حدود قوته، وأعتقد أن بوتين يدرك هذه الحقيقة، التي تشكل أهمية بالغة بالنسبة إلى الدبلوماسية في المستقبل.في الأيام القليلة المقبلة، سيكشف تشكيل الحكومة الجديدة في روسيا الكثير عن علاقات القوة بين المحافظين والليبراليين، والجدير بالذكر أن مليارات الدولارات من الأموال العامة معرضة للخطر الآن، نظراً لخطة الخصخصة التي صممها الرئيس السابق ديميتري ميدفيديف.وهنا يعمل الاتحاد الأوروبي وفقاً لإطار معين- الشراكة من أجل التحديث، التي تم التفاوض عليها مع ميدفيديف- من المحتمل أن يكون إيجابياً للغاية. ولا شك أن انضمام روسيا إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2011 من شأنه أن يساعد في ضمان التزامها بقواعد اللعبة الدولية، كما حدث مع الصين عندما التحقت بعضوية منظمة التجارة العالمية. ولابد أن يبدأ التزام روسيا بالإطار القانوني لمنظمة التجارة العالمية في إضفاء المزيد من الاستقرار والوضوح على العلاقات الاقتصادية معها.في الماضي، كانت جورجيا تعرقل انضمام روسيا لعضوية منظمة التجارة العالمية، ولكنها سحبت نقضها في العام الماضي بعد ملحمة من الدبلوماسية الراقية التي أسست آلية لمراقبة الحدود من دون الاعتراف بإقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا الانفصاليين كجزء من جورجيا أو كدولتين مستقلتين. والواقع أن هذا الحل يُعَد نتيجة طيبة بالنسبة إلى المنطقة على الرغم من تعقيده.ونظراً لحجم المشاكل التي تواجه أوكرانيا حالياً، إلى جانب اختلالها الوظيفي، فإن الحلول الأنيقة قد لا تكون متاحة أو كافية. إن أوكرانيا، التي تعاملت معها منذ استقلالها، كانت بمنزلة إحباط كبير بالنسبة إلي، فقد شاركت في المفاوضات التي ساعدت في التوصل إلى حل سلمي للثورة البرتقالية أثناء الفترة 2004 - 2005. ولكن الاقتتال الداخلي بين زعماء الثورة، يوليا تيموشينكو وفيكتور يوتشينكو، كان مدمراً، حتى إن فيكتور يانوكوفيتش، الذي أدت محاولاته الرامية إلى التلاعب بالانتخابات الرئاسية في عام 2004 إلى اندلاع الثورة، أصبح الآن رئيساً للبلاد في حين تقبع تيموشينكو في السجن.وبالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، فإن أوكرانيا تظل تمثل مشكلة خطيرة، فبسبب سجن تيموشينكو وغيرها، تظل اتفاقية التجارة الحرة الشاملة واتفاق الارتباط مع الاتحاد بلا توقيع. ولكن مما يدعو إلى التفاؤل أن الأمل لا يزال قائماً في أن تنجح الواقعية البسيطة في إقناع يانوكوفيتش والنخبة الحاكمة في أوكرانيا بالعودة إلى المسار الكفيل بالسماح بالتوقيع على اتفاق الارتباط، خصوصاً أن الاتحاد الأوروبي يشكل عنصر جذب لأغلب المواطنين الأوكرانيين العاديين.لقد نجحت قوة أوروبا الناعمة في تغيير العديد من الأمور في الكثير من البلدان على مدى العقدين الماضيين، الأمر الذي يدفع الزعماء والمواطنين إلى إصلاح اقتصادهم وتبني أو تعزيز القيم والمؤسسات الديمقراطية. ومن الممكن أن تستمر قوة أوروبا الناعمة في أداء نفس الدور في تركيا وروسيا وأوكرانيا. إما هذا وإما تفقد أوروبا المصداقية والنفوذ والفرص الاقتصادية إذا ركنت إلى التقاعس عن العمل واللامبالاة.* خافيير سولانا | Javier Solana ، الممثل الأعلى السابق للاتحاد الأوروبي لشؤون السياسة الخارجية والأمن، والأمين العام السابق لمنظمة حلف شمال الأطلسي، ووزير الخارجية الإسباني الأسبق، ويشغل حالياً منصب رئيس مركز «إيساد» للاقتصاد العالمي والجغرافيا السياسية، وكبير زملاء «معهد بروكينغز».«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
أوروبا وثلاث قضايا شرقية
13-06-2012