-1-

Ad

كنتُ قد كتبتُ في عام 2008، أُشيدُ بما قاله الباحث والناشط الأميركي غريغ مورتنسون، في كتابه "ثلاثة فناجين من الشاي Three Cups of Tea"، الذي أصبح أحد أكثر الكتب مبيعاً في العالم. وقلتُ وقتها إن معظم المحللين السياسيين اتفقوا على أن ظاهرة الإرهاب، التي انتشرت بشكل واضح بعد كارثة 11 سبتمبر 2001، كان سببها التعليم الديني الأصولي، الذي ساهم مساهمة كبيرة في نشوء ظاهرة الإرهاب على النحو الذي نراه الآن، إضافة إلى عدة عوامل سياسية، واجتماعية، واقتصادية، وثقافية.

ولذا، رأى هؤلاء، ومعهم آخرون ممن يعتقد، أن علاج الإرهاب يكون أيضاً بالتعليم، تمثلا للحكمة القائلة: "وداوها بالتي كانت هي الداء". فما دام هؤلاء المنتحرون، ومعظمهم من الشباب، قد اندفعوا إلى النحر والانتحار، بفضل تعاليم دينية درسوها في مدارسهم، وقرؤوها في كتبهم، فمن الأصوب أن نقوم بإنشاء مدارس ومناهج مضادة، تقوم على المناهج العقلانية الحديثة والتعليم الحديث، لكي يتوقف جيل هؤلاء عند الحد الذي هو عليه الآن، ولا ينشأ بعد ذلك، جيل انتحاري وإرهابي جديد، وتقع الواقعة مرة أخرى، كما جرى في عام 2001، وما بعدها.

-2-

وبناءً عليه، فقد أدرك كل هذا، وعمل به، وطبّقه تطبيقاً سليماً ليس العرب، الذين تأذّوا من الإرهاب أذى كبيراً، ولكنه كان موضوع كتاب "ثلاثة فناجين من الشاي" عن تجربة غريغ مورتنسون Greg Mortenson التي كتبها الصحافي الأميركي ديفيد ريلين. ويروي الكتاب محاولة مورتنسون الفاشلة لتسلق جبل (كيه 2) في جنوب آسيا، ومقابلته مع القرويين الباكستانيين الفقراء الذي قال إنهم ألهموه لبناء مدارس ومشاريع أخرى في المنطقة.

وكانت فكرة هذا الكتاب، مستوحاة من مقولة شهيرة لسكان منطقة "بلتستان" شمال كشمير على الحدود الصينية، ويدين معظم سكان هذه المنطقة في التبت بالإسلام، أما أحداث هذا الكتاب فتدور حول قصة رجل واحد، واجه الفقر والجهل في محاولته لتعليم الفتيات هناك، والمصاعب التي واجهته، وكيف تغلّب عليها، ليصل إلى "مرحلة فنجان الشاي الثالث"، مع أهالي بلتستان!

ومورتنسون هذا، ليس فيلسوفاً، ولا مصلحاً دينياً، ولا ناشطاً سياسيا، ولا صاحب رسالة إنسانية، ولم يسبق له أن كتب كتباً أو أبحاثاً في التعليم الديني، أو في عناصر الإرهاب والجماعات السلفية الإسلامية. وتبيّن لنا فيما بعد أنه استطاع أن يسوّق كتابه، ويجني منه أموالاً طائلة.

-3-

وفي بداية هذا الشهر (1/6/2012)، وبعد مضي عام على رفع دعوى، ضد مؤلف كتاب "ثلاثة فناجين من الشاي" رفض قاض اتحادي في ولاية مونتانا دعوى احتيال وتزوير، تتهم المؤلف غريغ مورتنسون، وبأنه لفَّق معظم قصته عن تشجيع تعليم الفتيات في باكستان وأفغانستان. وقال سام هادون القاضي في المحكمة إنها "دعوى غير دقيقة، وواهية جزئياً".

ومن المعروف، أن الدعوى قُدمت، بعد تقرير خطير في برنامج (60 دقيقة) في محطة تلفزيون (CBS) ، طعن في مصداقية تفاصيل السيرة الذاتية في مذكرات مورتنسون.

-4-

غريغ مورتنسون هذا، مواطن أميركي من ولاية مونتانا، يهوى الطبيعة وتسلق الجبال، وهو شهير في رياضة تسلق الجبال، وكان يمكنه جمع الملايين من هذه الشهرة لو أراد، إلا أنه ترك كل هذا، والتفت إلى ما يمكن أن يجلب له شهرة واسعة ومالاً أكثر. فقام ببناء مدرسة في أقصى شمال باكستان. وسر معرفته بباكستان أنه تخلف في باكستان عام 1993 عن مجموعة رياضية، كانت تحاول تسلق جبل "كيه تو"، ثاني أعلى قمة في العالم، وأنقذه سكان معدمون يسكنون قرية اسمها "كورف"، كائنة في حرف منحدر جليدي ضخم بمنطقة بالتيستان، بالقرب من الصين.

وبعد أن تعافى مورتنسون، قطع وعداً للقرويين بتشييد مدرسة بقريتهم، وقامت أمه بجمع التبرعات من أجل باكستان في المدرسة التي تعمل بها في ولاية ويسكانسين، وفي بيته بولاية مونتانا. وباع كل ما يملكه، وعاش في سيارته، حتى يوفّر الأموال لتنفيذ المشروع، وفي النهاية جاءته عشرة آلاف دولار من محسن ثري، لكي يؤسس "معهد آسيا الوسطى" وهو منظمة غير حكومية، مُكرَّسة لتشييد المدارس. ولم يسلم مورتنسون من هجوم رجال الدين المسيحيين الأصوليين عليه، الذين أطلقوا الفتاوى ضده. وبعد ثلاث سنوات من الجد والعمل المتواصل أنشأ مدرسته الابتدائية الأولى. وبعدها بثلاثة أشهر شيّد ثلاث مدارس أخرى، فقد أدرك مورتنسون أن تنمية حياة الناس في مثل تلك المناطق البعيدة، تعتمد على تعليم الفتيات، وأن الوسيلة المثلى لمواجهة التعليم الديني المتطرف، هو إنشاء مدارس حديثة، أي اتباع حكمة: "وداوها بالتي كانت هي الداء". وكانت المعجزة أن يقوم مورتنسون ببناء 55 مدرسة بشمال باكستان وأفغانستان، ويتعلم فيها 24 ألف طالب وطالبة تعليماً حديثاً، بعيداً عن المناهج الدينية المتطرفة، التي تدعو إلى عداوة الآخر، وتكفيره، ومحاربته. وكانت المفاجأة، أن معظم من قرأ كتاب "ثلاثة فناجين من الشاي"، أخذ يساند سكان المناطق وشيوخ القبائل التي أقام فيها مورتنسون مدارس، ويحموه من أي اعتداء محتمل، بعد أن تعرّض إلى اعتداء من قبل الحشاشين في وزيرستان. ولكن مجلس الملالي في هذه المنطقة، عقدوا اجتماعاً وأصدروا فتوى تقول إنه "لا وجود لقاعدة في القرآن الكريم، تُحرِّم أن يُبدي الكافر المعاونة للمسلمين، وعليه فنحن نأمر كل رجال الدين في باكستان ألا يعوقوا طريقك. لقد سمحنا لك بالعمل، وأسبغنا عليك بركاتنا، ودعواتنا".

-5-

ويروي ديفيد ريلين على لسان مورتنسون فشل الحل العسكري الأميركي في أفغانستان، والضحايا من الجيش الأميركي، والإنفاق المالي الهائل دون جدوى ملموسة في محاربة الإرهاب في أفغانستان، فكل إرهابي يُقتل يظهر بدلاً منه عشرة إرهابيين كل يوم، نتيجة للجهل، والفقر، وسيطرة التعليم الديني المتشدد.

وقد عبَّر الكاتب الصحافي نيكولاس كريستوف، في جريدة "نيويورك تايمز"، عن هذا بقوله: "منذ تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001، جرَّب الغربيون مقاربتين لمحاربة الإرهاب في باكستان: مقاربة الرئيس بوش، ومقاربة غريغ مورتنسون. فبوش ركَّز على القوة العسكرية، ووفر أكثر من 10 مليارات دولار لحكومة برويز مشرّف، غير أن هذه المقاربة فشلت، إذ جعلت المناطق القبلية في باكستان أكثر تشدداً، وباتت مأوى وسنداً للإرهابيين أكثر من أي وقت مضى. أما مورتنسون، فتبنى مقاربة مناقضة تماماً، أنفق فيها أقل بكثير من المبلغ الذي أنفقته إدارة بوش، حيث يقوم الرجل ببناء المدارس في مناطق باكستانية وأفغانية معزولة، ويعمل عن كثب مع رجال الدين المسلمين، بل يُصلّي معهم أحياناً، أما الشيء الوحيد، الذي ينسفه مورتنسون فهو جلاميد الصخر، التي تسد الطرق المؤدية إلى المدارس".

وهكذا يتبين لنا، أن أفضل علاج للتطرف الديني في باكستان وأفغانستان هو التعليم، والفرص الاقتصادية، لذلك نجح "مورتنسون" بمفرده، بينما فشل فيه بوش وإدارته.

فهل يقرأ المسؤولون العرب كتاب "ثلاثة فناجين من الشاي" جيداً، ويحاولون تطبيق تجربة غريغ مورتنسون، بأقل القليل من المال والجهد، للتخفيف من الإرهاب، ثم القضاء عليه مستقبلاً؟

* كاتب أردني