ذكر لورانس رايت في مقدمة كتاب !Hold on to Your Veil, Fatima لسانا نيغوس أن سعد الدين ابراهيم، عالم الاجتماع الشهير في الجامعة الأميركية بالقاهرة، أخبره ذات مرة: «نتطلع، نحن المصريين، إما إلى البحر أو إلى الرمل». يمثل البحر أوروبا ومبادئها الديمقراطية والتعددية، أما الرمل، فرمل الصحراء بميولها القبلية وتقواها وعروبتها.

Ad

نيغوس مراسلة فنلندية أمضت في مصر نحو عقد من الزمن لتضع بعد ذلك كتابها !Hold on to Your Veil, Fatima (تمسكي بحجابك يا فاطمة!) الذي نجحت من خلاله، في تصوير هذا التناقض في الشارع المصري، منذ انفتاحه عقب غزو العراق إلى تنامي نفوذ جماعة الإخوان المسلمين فيه. ولم تكتفِ هذه المراسلة بنقل الحالة السياسية في مصر، بل تناولت أيضاً مسائل اجتماعية شائكة، مثل العلاقات بين الجنسين ومخاوف الأقباط، وأجابت عن أسئلة مثل: ماذا حدث لملكة جمال مصر بعدما قررت ارتداء الحجاب؟ مَن هم هؤلاء الشبان الذين يعرضون أشرطة مصورة لرجال شرطة يعذبون أشخاصاً مشتبهاً فيهم؟ ولمَ ظل حسني مبارك يحكم مصر طوال عقود من دون أي منازع؟ كذلك قابلت نيغوس راقصات وكتّاباً قاوموا رقابة نظام مبارك المستبدّ، فدونت تجاربها ومغامراتها هذه بأسلوب صحافي يأسر اهتمام القارئ العادي. في ما يلي مقتطف من كتابها هذا.

هل الإسلام هو الحل؟

رنّ هاتف مهدي، كنا نوشك أن نُنهي تصوير أول عمل تلفزيوني لي وكان عبارة عن قصة تتناول موضوع ارتداء الحجاب. كانت المقابلة مع أم محجبة وابنة غير محجبة قد شارفت على نهايتها، وبدا الجميع سعيداً. في اللقطة الأخيرة، صورنا ألبوم صور عائلية في ظلال غرفة معيشة في إحدى شقق القاهرة وكانت اللمبات الفلورية الشاحبة تضيء المكان.

ثم تصاعد صوت متوتر من هاتف المصور مهدي: «تعال إلى المكتب سريعاً. وقع حادث كبير في نيويورك!» فأسرعنا بتوضيب كاميراتنا وودعنا الأم وابنتها. توافرت معلومات إضافية حول الحادث حين كنا في طريقنا إلى المكتب: اصطدمت طائرتان ببرجَي مركز التجارة العالمي. فجأةً، بدت خيارات التحجب عند النساء المسلمات، ومعها أول عمل تلفزيوني لي، أقل الأمور أهميةً في العالم.

قدنا بأقصى سرعة ممكنة، عبر زحمة السير الخانقة في القاهرة في فترة بعد الظهر، باتجاه مكتب طاقم المصورين الواقع بالقرب من مبنى التلفزيون المصري في جوار نهر النيل. في المكتب، كانت شاشات التلفزة تُظهر للمرة الأولى تلك المشاهد التي أصبحت مألوفة الآن: البرجان المشتعلان، الدخان، الرماد، حالة الهلع. تفاجأتُ حين بدأ مهندس الصوت وأعضاء آخرون في المكتب يهتفون: «أحدهم لقّن الأميركيين درساً أخيراً!» في تلك المرحلة، لم يكن حجم المأساة قد اتضح بعد، لكن بالنظر إلى الصور، صليتُ من أجل المصريين والعرب كي لا يكون المعتدون من الشرق الأوسط، لكن كان ذلك الاحتمال بعيد المنال.

بعد فترة قصيرة، اتضح أن أحد المعتدين كان مصرياً، وهو محمد عطا (33 عاماً) الذي درس في ألمانيا. في صورة شائعة تُظهر جواز سفره، ينظر عطا ذو الوجه المربع إلى الكاميرا مباشرةً ويبدو بالغ الجدية وتعلو وجهه ملامح الازدراء. هذا الرجل الذي يعتبره أصدقاؤه ومدرّسوه في الجامعة طالباً جدياً ومجتهداً، اتُّهم بتغيير مسار الطائرة التي اصطدمت بالبرج الشمالي لمركز التجارة العالمي بين الطابق 94 والطابق 99.

بدأ الصحافيون من جميع أنحاء العالم، لا سيما الولايات المتحدة، يتدفقون إلى القاهرة. كان المراسلون والمترجمون يعملون على مدار الساعة ويكسبون دولارات طائلة، لكنهم كانوا يتذمرون، في الوقت نفسه، من قلة دقة القصص التي يكتبها الصحافيون من دون أن يفهموا الكثير عن الدين في ذلك البلد. فجأةً، تحولت مصر بنظر الأميركيين إلى معقل إرهابي ينتج متعصبين من أمثال عطا.

لم تكن تلك الصورة مألوفة بالنسبة إلى سكان القاهرة. ماذا لو كان أحد الأفراد متورطاً في عمل إرهابي مشين؟ هل يستطيع تلطيخ صورة شعب يحبّ السلام، تلك الصورة التي بُنيت بحذر في بلد يتكل على السياحة؟ لقد ذُهل المصريون بقدر الأجانب من تورط مواطن مصري في هذا العمل الإرهابي. لكن لا يكون المصريون مصريين بمعنى الكلمة إلا إذا حولوا المأساة إلى كوميديا.

وفق إحدى الدعابات الشائعة التي سرت سريعاً في أنحاء القاهرة، لا يمكن أن يكون المعتدون من العالم العربي لأن توقيت العملية كان دقيقاً للغاية. يستحيل أن يكون العرب مسؤولين عن العملية فهم أكثر الأشخاص الذين لا يحترمون الوقت!

كان والد محمد عطا محور حملة إعلامية جنونية، وكان المراسلون من أنحاء العالم يحتاجون إلى قصة يسردونها، لكن تمسك عطا الأب بنسخته الخاصة عما حصل: كان ابنه بريئاً بحسب قوله. عقد الأب «مؤتمراً صحافياً» أشبه بمناجاة فردية، لأن تلك المناسبة لم تُخصّص لطرح الأسئلة وتقديم الأجوبة. سرعان ما علت نبرة صوته وازداد وجهه احمراراً حين راح يدافع عن ابنه: فأكد أنه تلقى اتصالاً هاتفياً منه في 11 سبتمبر بعد وقوع الاعتداءات. لم يقتنع الأب بمسؤولية ابنه حتى بعد رؤية الصور التي التقطتها كاميرات أمن المطار: لم يكن ابنه عريض الكتفين لهذه الدرجة ولم يكن أنفه كبيراً بهذا الشكل. بحث الصحافيون المنزعجون عن أجوبة على أسئلتهم إنما من دون جدوى.

في شوارع القاهرة، كانت ردود الفعل مختلطة. حالما اتضح حجم الدمار الحاصل، عبّر كثيرون عن تعاطفهم مع الضحايا: أخبرني أحد الأصدقاء الأميركيين أن سائق الأجرة رفض أخذ أجرته مقابل توصيله من باب التعاطف مع ما حدث. لكن سرعان ما بدأت نظريات المؤامرة التي يحبها المصريون تنتشر بوتيرة سريعة. وفق إحدى الإشاعات المترسخة، تلقى 4 آلاف يهودي تحذيراً مسبقاً عما سيحصل فلم يحضروا إلى العمل في ذلك اليوم المريع. بحسب رأي البعض، كان الموساد ووكالة الاستخبارات المركزية المذنبَين الحقيقيين وليس بن لادن. فقد اعتُبر بن لادن بطلاً من أبطال معسكر المقاومة وحصد الإعجاب سواء بشكل صريح أو ضمني.

لم تذكر الصحافة المصرية، من جهتها، أنّ شخصاً مصرياً قد يكون متورطاً في هذا العمل المشين. ما زالت سنوات العنف التي عاشها المصريون أنفسهم حية في ذاكرتهم، وتحديداً ما حدث خلال الاشتباكات بين الإسلاميين المتطرفين وقوى أمن الدولة، بين عامي 1992 و1997، إذ قُتل نحو 1200 مصري.

يمكن اعتبار مصر موطن النزعة الإسلامية الحديثة. تعود الجذور الإيديولوجية للنزعة الإسلامية أو الإسلام السياسي إلى تأسيس منظمة «الإخوان المسلمين» خلال العشرينيات من القرن الماضي. مهدت هذه الجماعة التي حاربت ضد الاستعمار ودعمت النهضة الإسلامية الطريق أمام ظهور جماعات أكثر تطرفاً اليوم. أصبحت الإيديولوجيا متطرفة خلال الستينيات والسبعينيات عندما نشر المتعصبون الشباب في الشرق الأوسط تفسيراً غير دقيق للإسلام خلال المعركة الواسعة النطاق ضد الحكومات. على رغم الاعتداءات الإرهابية في التسعينيات، توقفت المعركة الاستراتيجية في مصر مع أن الإرهابيين الإسلاميين الدوليين يشكلون استمرارية للإيديولوجيا المتطرفة نفسها.

* * *

اعتُبر مؤسس «الإخوان المسلمين»، حسن البنا، قائداً جذاباً وقيل إنه أدار منظمته عبر فرض قبضة استبدادية. تمحورت المبادئ التي وجّهت حياة البنا حول نشر قواعد أخلاقية صارمة تبناها في شبابه (إيمان ثابت بالله الكلي القدرة) تزامناً مع الحفاظ على صحة بدنية جيدة. كان يدعو المؤمنين إلى الخلاص بينما عمد الجناح العسكري للإخوان إلى شن اعتداءات ضد المحتل البريطاني. حتى هذا اليوم، تشكل أفكار البنا الأساس الإيديولوجي لمنظمة «الإخوان المسلمين».

اطلّعت الحركات داخل المجتمع المصري على نشاطات البنا الذي عاش في فترة احتلال البريطانيين لمصر (بطريقة مباشرة أو غير مباشرة). فمنذ العام 1882، استولى هؤلاء على مصر وحولوها إلى «محمية»: كان الملك والبرلمان يتوليان الحكم ظاهرياً فيما السلطة الفعلية كانت بيد البريطانيين.

أدت الصحوة القومية في بداية القرن العشرين إلى تنظيم تظاهرات حاشدة أطلقها حزب الوفد للمطالبة بالاستقلال، لكن تحقق ذلك المطلب بشكل جزئي فقط: عام 1922، أُلغيت «المحمية» وأعلنت مصر استقلالها رسمياً. لكن حرص البريطانيون على ألا يتحرك الملك المصري فؤاد ولا البرلمان ضد مصلحة الدولة الاستعمارية السابقة. كذلك، حافظ الجيش البريطاني على وجوده هناك بشكل واضح.

كان المجتمع المصري يخوض تحولاً ملحوظاً نتيجة العصرنة ونزعة التصنيع وظهور الرأسمالية. ارتفع العدد السكاني بوتيرة سريعة وتزايدت الهجرة من الأرياف إلى المدن بوتيرة ثابتة. كانت الظروف التي تعيشها الطبقة العاملة في المدن مريعة وأدى نقص خدمات الصرف الصحي إلى انتشار الأوبئة. ثم جاء الكساد العالمي خلال الثلاثينيات ليزيد تلك الظروف سوءاً.

في المقابل، تمتع الأوروبيون في مصر بحياة سهلة. كانت المقاهي الفرنسية ودور السينما تذكّر الجميع بالوجود الأجنبي. لم تلتزم النخبة المصرية بتقاليد أوروبا فحسب بل تبنت طريقة تفكيرها وقناعاتها أيضاً، وتحدثت الفرنسية والإنكليزية بفصاحة أكبر من اللغة العربية واتبعت الموضة الأوروبية. ظن علمانيون مصريون كثيرون أن الغرب أفضل من الشرق.

وُلد حسن البنا خلال تلك الفترة الانتقالية في مدينة المحمودية في منطقة دلتا النيل. منذ مرحلة مبكرة في حياته، أظهر مؤشرات على التديّن وكانت ألعاب الطفولة تشير إلى دعوته المستقبلية: كان يصنّف أبناء الجيران بين «مؤمنين» و{غير مؤمنين» ويمثّل الحروب بناءً على ذلك. في مرحلة الرشد، كان البنا شخصاً جدياً وعميق التفكير، ولكنه لم يكن يسمح لنفسه بأن يطلق أي دعابة مع أنه كان يضحك مع الآخرين أحياناً.

كانت الصوفية (العنصر الباطني في الإسلام) أحد العوامل الأكثر تأثيراً في الإيديولوجيا التي تبناها البنا في شبابه. لا تعترف جامعة الأزهر في القاهرة (وهي أعلى سلطة للتعليم الإسلامي السني) بالصوفية كونها تشمل تقاليد شعبية (مثل زيارة القبور والاحتفال بأعياد الأولياء). كان البنا عضواً في جماعة صوفية وكان يشدد على أهمية الشريعة وتطبيق الطقوس الواردة في الكتب المقدسة: القرآن، والتشريع السني (القانون الإسلامي المبني على أقوال وأفعال النبي)، والحديث الشريف (التقاليد).

صحيح أن دعوة البنا كانت تتمحور حول الدين، لكنه لم يختر الدراسة في جامعة الأزهر الإسلامية المرموقة (حيث يدرس معظم العلماء الإسلاميين السُّنة)، بل تخرّج كمدرّس للغة العربية في جامعة دار العلوم الجديدة التي تخلط بين التعليم المعاصر والتعليم الإسلامي، لذا نجح البنا في الجمع بين دور المعلم والواعظ.

لدى انتقاله إلى القاهرة، شاهد البنا للمرة الأولى المظاهر الغربية في المجتمع المصري فاعتبرها شكلاً من الإلحاد والفجور، ثم اقتنع بأن المصريين لم يعودوا ملتزمين بالإسلام الحقيقي. من وجهة نظره، تلوث المجتمع كله بالرذائل: الكحول، النساء شبه العاريات، المسارح، صالات الرقص. عام 1924، خلال تلك الفترة الحاسمة من حياة البنا، ألغى كمال أتاتورك نظام الخلافة الإسلامية، فاحتدم النقاش حول مستقبل الأمة الإسلامية لكن أُعيقت محاولات إعادة إحياء نظام الخلافة.

عام 1927، عُيّن البنا في منصب تعليمي في الإسماعيلية، إحدى البلدات في قناة السويس. كانت «شركة قناة السويس البريطانية» التي تدير القناة فتحت مقرها هناك، وتستضيف البلدة أيضاً ثكنات بريطانية، وقد ارتفع عدد الأجانب بكل وضوح في شوارع الإسماعيلية. لاحظ البنا كيف يعيش الأجانب حياة مترفة بفضل أرباح القناة بينما يموت المصريون من الجوع. وسط هذه اللامساواة الواضحة، أصبح البنا مقتنعاً بطبيعة مهمته في الحياة: يجب إنهاء الفساد في المجتمع المصري!

بدأ البنا يعظ في المقاهي ويعطي محاضرات خاصة. كانت رسالته بسيطة: وحدها العودة إلى الإسلام الحقيقي قد تشفي من الشعور بالتهميش لأن الإسلام شامل بطبيعته. مثل إصلاحيين مسلمين كثيرين، شدد البنا على أهمية الهوية: يملك المسلمون في الدين الإسلامي مجموعة مثالية من القيم ولا بد من إعادتها إلى المكانة التي تستحقها.

بدأت قوة إرادته الصلبة وصبره الكبير خلال مهمته التعليمية يعطيان ثمارهما فحشد أعداداً إضافية من الأتباع. أطلق اسم «الإخوان المسلمين» على منظمته في عام 1928. كان البنا في الثانية والعشرين من عمره فقط في تلك الفترة ولكنه كان خبيراً في حياة المنظمات.

في البداية، كان هدف «الإخوان المسلمين» مزدوجاً: تطوير الإسلام الحقيقي (وفق تعريف البنا) ومحاربة الاحتلال الخارجي. كانت رسالة «الإخوان» تتماشى مع طبيعة الأوضاع حينها وسرعان ما وصلت إلى البلدات المصرية الشمالية الأخرى وانتقل مقر المنظمة إلى القاهرة. على رغم استمرار نمو منظمة «الإخوان»، إلا أنها لم تكن مفتوحة أمام الجميع بل كان أعضاؤها ينتسبون إليها عبر عملية تدريجية. تُطبّق السياسة نفسها اليوم.

كان البنا زعيم المنظمة بطبيعة الحال وكان يُعتبر المرشد العام. يشير هذا اللقب إلى مرشد يخضع لقيادة الله ويرشد الآخرين إلى طريق الله. كان الأعضاء ملزمين بأداء قسم الولاء أمام المرشد وكانوا يعدون بتنفيذ أوامره بالكامل وفي الظروف كافة. تشتق عملية أداء قسم «البيعة» من الحقبة الإسلامية السابقة (كان أتباع النبي يقسمون الولاء له) ومن النزعة الصوفية أيضاً: يقسم الصوفي المبتدئ اليمين أمام معلّمه. يشير هذا القسم إلى مدى تقدير البنا للقواعد الصارمة والأدوار المختلفة التي يلعبها الحاكم والمحكوم. كما أنه يلمح إلى وجود نزعة استبدادية (لا مجال للتشكيك بأفعال القائد).

مع تنامي عدد أعضاء «الإخوان»، بدأت نشاطات المنظمة تزداد شبهاً بنشاطات أي حزب سياسي بدل أن تبقى جمعية خيرية إسلامية. شكّل برنامجها، لا سيما انتقاداتها للحكومة، عاملاً جاذباً بالنسبة إلى شرائح الشعب التي عانت الكثير بسبب الركود الاقتصادي: العاملون في الخدمة المدنية، الطلاب، الطبقة العاملة في المدن، المزارعون.

تركزت نقطة البداية في إيديولوجيا البنا على سلطة الإسلام المطلقة: يغطي الإسلام جوانب الحياة في هذا العالم وفي العالم الثاني، لذا يجب أن يعود المسلمون إلى أصل الإسلام (القرآن، التشريع السني، تعاليم الأسلاف) بدل سماع تفسيرات الفقهاء الإسلاميين. في الوقت نفسه، شجع البنا على استقلالية الاجتهاد ليتماشى المسلمون مع متطلبات الزمن المعاصر.

ظن البنا، مثل عدد من المعاصرين من قبله، أن العودة إلى الإسلام لن تعزز قيمة الأمة فحسب بل ستقوي نفوذها السياسي تجاه الغرب أيضاً. كان مجتمع المدينة المنورة في زمن محمد النموذج الاجتماعي المثالي من وجهة نظره، ويمكن أن يصبح ذلك النموذج واقعاً ملموساً إذا خاض المؤمنون صحوة داخلية عميقة. لكن بالنسبة إلى الكثيرين، بقي إيمانهم كامناً وكان يجب أن يوقظه «الإخوان» عبر الدعوة إلى الإسلام.

كان هدف «الإخوان» النهائي يقضي بإنشاء دولة إسلامية أو نظام اجتماعي. كانت الشريعة لتصبح دستور تلك الدولة وكانت لتتبع عقيدة واحدة وتخضع لحكم مركزي. يعبّر شعار «الإخوان» عن هذه الفكرة بالطريقة الآتية:

الله هو هدفنا، والقرآن هو دستورنا، والنبي هو قائدنا، والنضال هو طريقنا، والموت في سبيل الله هو أقصى ما نطمح إليه.

بعبارة أخرى، بقي احتمال استعمال العنف وارداً لإنشاء دولة إسلامية، وهي وسيلة مذكورة ضمناً منذ نشوء الجهاز السري. لكن كان هدف البنا الأساسي يقضي بتحرير مصر من محتلّيها وإنشاء دولة مستقلة. على عكس القوميين العلمانيين، اعتبر البنا أن المجتمع الإسلامي الواسع (أي الأمة) هو أكثر أهمية من الهوية المبنية على الجنسية، وأن جماعة «الإخوان» هي جبهة الإسلام وأنه زعيم تلك الجبهة وهو مستعدّ للاستشهاد من أجلها. أما تفاصيل الدولة الإسلامية وتدابيرها العملية، فهي تحتل أهمية ثانوية بالنسبة إليه: ستتضح هذه الأمور من تلقاء نفسها فور إنشاء الدولة. يطرح هذا الغموض مشكلة يواجهها «الإخوان» حتى هذا اليوم.

من وجهة نظر البنا، تتألف البنية السياسية في الدولة الإسلامية من ثلاثة عناصر: القرآن (أساس الدستور) والبرلمان (يتألف من حزب واحد ويعمل بناءً على مبدأ الشورى) والحاكم (يجب أن يخضع للإسلام ولإرادة الشعب ويمكن طرده بغالبية الأصوات). يرتكز صنع القرار على تصويت الغالبية بكل بساطة على أن توافق الأقلية على قرارها في النهاية. لكن كتدبير وقائي، يجب تجنب مناقشة الفلسفة السائدة والأسئلة الافتراضية.

يبدو هذا النموذج استبدادياً في أسلوبه إذ تُمنع المعارضة من التحرك بالكامل. افترض البنا بكل سذاجة أن الأمة ستوافق على المسائل الأساسية، كما أنه خطط لقيام نظام مُخبِر حيث يراقب المواطنون بعضهم البعض. بالنسبة إليه، كان القطاعان العام والخاص متلازمين.

كان زواج البنا سعيداً وقد أنجب خمس بنات وابن، لكن لم يكن تطوير وضع المرأة على رأس أولويات أجندة «الإخوان» (وهو ليس كذلك اليوم). تطرق البنا إلى هذا الموضوع في كتيّب صغير في عنوان «المرأة المسلمة»، وهو بحث استفزازي يقتبس فيه البنا أحاديث محافظة متنوعة تصوّر المرأة على أنها كائنة مغرية يجب أن تتحجب وتختفي من الشوارع.

صُدمتُ بذلك الكتيب فقصدت شقيق حسن البنا الأصغر، وهو آخر أشقائه الأحياء، لأسأله عن رأيه بالموضوع. جمال البنا في الثمانينيات من عمره وهو كاتب وناشط سابق في اتحاد العمال. عيناه تميلان إلى اللون الأخضر وضحكته مُعدِية. مثل معظم كبار السن المصريين، يفضل ارتداء بذلات السافاري الداكنة البسيطة ووضع نظارات سميكة.

كان حسن البنا أكبر من جمال بـ14 عاماً وكانت علاقتهما «متوترة لكن دافئة» بحسب قول جمال. أصبح الشقيق الأصغر ناقداً شرساً لمنظمة «الإخوان» الراهنة، فاتهمها بالجمود والفشل في التجاوب مع متطلبات العصر، كونها تفضل تطبيق تعاليم قائدها السابق حرفياً.

مبادئ الإخوان

أخبرني شاب (فضّل عدم الإفصاح عن هويته) كان يشارك في نشاطات «الإخوان» خلال التسعينيات عن أهمية الانضباط والقواعد انطلاقاً من خبرته:

«انضممتُ إلى «الإخوان» عندما كنت في المدرسة الثانوية. كنت أقيم في الخليج العربي، لذا لم أكن أعرف الكثير من الناس وكان يصعب علي إيجاد الأصدقاء. لم أنضم إلى المنظمة لأسباب سياسية، بل أردت أن أصبح أكثر تديناً وأن أتشجع أيضاً على تعميق طريقة تفكيري.

ثم قابلتُ شخصاً أكبر سناً في جماعة «الإخوان» فاصطحبني إلى مسجد لمقابلة الآخرين. لطالما أحببت رفقة الأشخاص الأكبر سناً وكان الأمر أشبه بالدخول إلى عالم آخر. كانوا يرسمون صورة عن العيش بسعادة والدخول إلى الجنة، وما كنت أستطيع رفض أمر مماثل!

يحصل كل أخ في جماعة «الإخوان» على «أخ مسؤول» حين يصبح «أخاً عاملاً». كان «الأخ المسؤول» يؤدي دور صلة الوصل إذا أراد «الإخوان» الكبار التحدث معي. لا يزال هذا التصنيف نفسه مطبقاً حتى الآن: يصبح الفرد أخاً عاملاً إذا اعتبر «الأخ المسؤول» أنه أصبح ناضجاً بما يكفي. لا يمكن التشكيك بالأخ المسؤول مطلقاً. كل شيء منضبط لكن لا أحد يستطيع استغلال «البيعة». كنت مقتنعاً بتدابير الانضباط وبوجوب عدم التشكيك بالقادة.

لتعزيز الروابط بين «الإخوان»، يجب القيام بأكبر عدد ممكن من النشاطات الجماعية لملء أيام «الأخ» الشاب، لدرجةٍ تجعل الحياة خارج إطار «الإخوان» غير معقولة. إنها عملية تدريجية بهدف تنظيم اليوم: يجب اللقاء عند الخامسة من كل صباح في المسجد للصلاة، ثم القيام بنشاط معين كل يوم وعقد اجتماع أو اجتماعين... كلما كثرت الاجتماعات، يشعر الفرد بزيادة أهميته. أما قضاء يوم فارغ من دون أي نشاطات، فيمنح شعوراً بالغيرة من الآخرين لأن الفرد لم يصل بعد إلى مرتبة مرضية داخل المنظمة.

كذلك، قد يشعر الفرد بأن واجبه الديني يفرض عليه المبادرة ببعض الأمور، وهو عامل غير موجود في المنظمات السياسية الأخرى أو حتى في الحياة المهنية. إذا لم يقدم الفرد أي مبادرة، فقد يشعر بأن الأعضاء الآخرين الذين يبادرون بالنشاطات هم مسلمون أفضل منه وأنهم سيحققون نجاحاً أكبر (تسود عقلية تسجيل النقاط لكسب الحياة الثانية). تتعدد مصادر التوتر البشري وأسباب الحسد والمنافسة، لكن بالنسبة إلى الأجيال الشابة التي تتولى تنشيط الجماعة، تختلف طريقة التفكير لأن جائزتهم موجودة في الحياة الثانية ولا يمكن معرفة النقاط التي يسجلونها، وبالتالي لا يمكن معرفة النتيجة التي يحققها كل فرد».