بين الحين والآخر يتبنى مثقفون ومبدعون في مصر الدعوة إلى إلغاء الرقابة، ويقيمون الدنيا ويقعدونها بلا طائل، فالجهاز المُسمى «الإدارة المركزية للرقابة على المُصنفات الفنية» يبقى على حاله، وربما يتوحش أكثر، بعد أن تنتهي الحملة من دون أي تغيير يُذكر، ويُدرك الجميع وقتها أن أصحاب دعوى الإلغاء حالمون أو واهمون؛ فالدول القمعية والأمنية تنظر للرقابة بامتنان شديد، وتراها ذراعاً حيوياً من أذرعها القوية!
ربما لهذا السبب كانت أنظمة الحكم قبل ثورة 23 يوليو 1952 متسقة مع نفسها عندما رأت أن تبعية الرقابة لا بد من أن تكون لوزارة الداخلية، ومع مجيء عام 1914 تأسس أول قسم للرقابة على الأفلام العربية والأجنبية، كإدارة تابعة للقسم الفني «المطبوعات» في وزارة الداخلية، كذلك كان أول مقر للرقابة السينمائية بوزارة الداخلية في لاظوغلي في الدور الأرضي في أحد المباني الفرعية القديمة!أدرك الجميع آنذاك ما لم نُدركه بعدها؛ فالرقابة جهاز بوليسي، وواحد من أذرع الدولة الأمنية، وأوجه التشابه كبيرة للغاية بينه وبين جهاز «مباحث أمن الدولة» («جهاز الأمن الوطني» في تسميته الجديدة)، فالجهازان يفتشان في النوايا ويُطاردان الأفكار، وفي حين يبحث «جهاز مباحث أمن الدولة» عن القرائن التي تقوده إلى القبض على المتهم، لا يبذل «جهاز الرقابة» جهداً في تلفيق التهم للمبدع، ويستقيها من سيناريو الفيلم السينمائي الذي قدمه، وفي نهاية الأمر يتفق الجهازان على توجيه تهمة واحدة «تهديد أمن وسلامة الوطن»!تطابق غريب وغير معقول فهذا يبطش بالأجساد، وذاك يجهض الأفكار، والاثنان يحاربان «جريمة وهمية» ويُطاردان «متهماً بريئاً»، لذا كان من الطبيعي والمنطقي، في ظل شفافية تلك الحقبة، أن تؤول تبعية «الرقابة» إلى «الداخلية»، ومع تراجعها وتسمية الأمور بغير مسمياتها الحقيقية، انتقلت تبعية «الرقابة» إلى وزارة الإرشاد القومي (الثقافة الآن) وتركت الدولة لها حرية التعامل مع المبدعين، حسب القانون 430 لسنة 1955، الذي يُعد المرجعية الرئيسة للرقابة حتى يومنا هذا.مع تزايد القبضة الأمنية، رأت وزارة الثقافة، في عهد الوزير السابق فاروق حسني، أن الطريقة المثلى للتعامل مع المبدعين والمثقفين تكمن في اختيار واحد منهم لتولي مسؤولية جهاز الرقابة، فينوب عنها في مهمة تصفية وملاحقة «المشاغبين» ومصادرة إبداعهم، وهي المهمة التي نفذها «المثقفون الرقباء» بنجاح عظيم، وعلى أيديهم تحولت الرقابة من جهاز مهمته حماية المجتمع إلى أداة لحماية النظام، وكأنها إدارة لمكافحة «الشغب الإبداعي» لا تختلف كثيراً عن شرطة المصنفات الفنية التابعة لوزارة الداخلية.اتخذت الرقابة لنفسها مساراً عجيباً عندما غضت الطرف عن الأفلام التافهة والهابطة والسطحية، وتفرغت لمطاردة الأفلام الحقيقية، التي تقدم رسالة وتتبنى كلمة جريئة، وفي ظل «الشيزوفرينيا» التي أصيبت بها اختلفت المعايير وتناقضت، ولم ينس القيمون عليها أنها كانت تابعة يوماً لوزارة الداخلية، فأصبحت ملفات السيناريوهات السينمائية الشائكة والمثيرة لرعب الرقباء، باعتبارها «سيناريوهات ملغومة»، تنتقل بشكل آلي وروتيني إلى وزارة الداخلية والأمن القومي والأزهر والكنيسة، وأصبح مصير فيلم رُصدت له موازنة طائلة في يد «الأزهر» لأن «إمام جامع» يرفض تصوير مشهد في صحن المسجد، وسيناريو أجازته لجنة من كبار المبدعين في قبضة «قس» تحفظ على جملة رأى فيها تجريحاً للعقيدة، ومن ثم منحت «الداخلية» لنفسها الحق في حظر شخصية درامية، بحجة أنها تسيء إلى ضباطها وتحط من هيبتها.من هنا تبدو أزمة الرقابة مع سيناريو فيلم «لمؤاخذة»، الذي قام مخرجه عمرو سلامة بتغيير عنوانه إلى «تانية إعدادي»، وأجرى بعض التعديلات على السيناريو، ومع هذا ظلت الرقابة على تعنتها، أقرب إلى تصفية الحسابات منها كمحاولة حقيقية لإعمال القواعد الرقابية؛ فالرقابة لا تعرف الالتزام بالقواعد، لكنها تلتزم بدورها كجهاز أمني مهمته حماية «النظام» من «المشاغبين» و{المخربين»، الذين يهددون أمن الوطن وسلامته، ويوم أن تتخلى عن هذا الدور، أو تقصر فيه، فلن يكون لها مكان في وزارة الثقافة، ولا يعني هذا أنها ستُلغى، حسبما يُطالب المثقفون، بل ستعود إلى بيتها الحقيقي في وزارة الداخلية لتعمل جنباً إلى جنب، وبشكل علني هذه المرة، مع «جهاز مباحث أمن الدولة» شقيقها في الرضاعة.
توابل - سيما
فجر يوم جديد: مكافحة «الشغب الإبداعي»!
19-10-2012