تم تحويل قانون الدوائر الانتخابية إلى المحكمة الدستورية وانتهى الأمر، وما عادت هناك فائدة حقيقية ترجى من الحديث عن «سوء» الحكومة و«خبث» طويتها، أو من تضييع الوقت في الدندنة على حكاية أنه حق يراد به باطل، وأن السلطة تسعى من وراء هذا الأمر إلى تشكيل دوائر جديدة يمكن لها العبث من خلالها بمخرجات الانتخابات القادمة للسيطرة عليها، أو تفتيت كتلة الأغلبية، كما يحلو للبعض أن يقول، فهذا كله وإن صح لن يغير شيئا، والبدو يقولون: «الحكي في الفايت نقصان عقل»، ولهذا فنحن بدلا من ذلك بحاجة ماسة للنظر والحديث عن خطوات التحرك الشعبي القادم.

Ad

قلت وكتبت لمرات عديدة سابقا، وأرشيف هذه الزاوية يشهد بذلك، وسأكرره الآن، المشكلة الأساس لهذه الأزمات السياسية الحادة المتلاحقة، والتي يبدو وكأن لا حل لها، ليست في الأشخاص، فهي لم تكن في شخص الشيخ ناصر المحمد أو في حكوماته، حتى إن حصرها البعض في ذلك آنذاك حتى رحل، وليست كذلك في شخص الشيخ جابر المبارك، حتى لو خرج اليوم من سيصيح كما صاح من صاح سابقا: «جابر المبارك ارحل»، ليدخل البلد في دوامة جديدة ومضيعة للوقت كبرى، وقد يتحقق بالفعل ما يراد، ولكن سنكتشف جميعا بعدها أنه لم يتغير شيء أيضا.

المشكلة ليست في الأسماء أبدا، فتأثير الشيخ جابر اليوم كتأثير الشيخ ناصر سابقا في مجريات الأمور في الواقع. كلاهما سواء، ولا يمثلان سيطرة حقيقية على أي شيء يجري، وحسبهما أنهما من الموجودين على خشبة هذا المسرح السياسي، كبقية الموجودين على اختلافهم لا أكثر، وحتى لا أُفهم خطأً، فأنا لا أشير هنا إلى طرف ما بعينه متهما إياه بأنه يقود ما يجري، بل على العكس من ذلك، ما أقوله وبكل وضوح هو أن واقعنا السياسي اليوم هو واقع انعدام وغياب القيادة والرؤية والخطة، وأن كل ما يجري هو مزيج من الفساد والعبث والتوهان والأزمات المفاجئة غير المتوقعة، والمعجون جميعه بالمصالح الفردية الفئوية الجزئية على حساب المصلحة العامة. المشكلة في الحقيقة تكمن في نظامنا السياسي برمته، ابتداء من شكل الدوائر وطريقة الانتخابات وأدواتها ووسائل رصدها ومراقبتها، مرورا بمساحات العمل السياسي المتاحة في ظل غياب القوانين المنظمة لوجود الجماعات السياسية والأحزاب والتيارات، وكذلك الممارسة البرلمانية المشبعة بالجوانب الركيكة مهنيا كتغيب النواب وعدم التزامهم بالعمل البرلماني دون وجود آليات صارمة لمحاسبتهم، انتهاء بآلية التشكيل الحكومي وكون الحكومة غير منتخبة أساسا، والكثير الكثير من الجوانب الأخرى التي عصفت جميعها وأطاحت بمختلف مؤسسات البلد وأسلوب عملها ونظمها الإدارية.

الدستور الكويتي صار في نظري اليوم بمنزلة نظام تشغيل الكمبيوتر «دوس» وهو النظام القديم الذي ظهر منذ سنوات بعيدة مع ظهور الكمبيوتر الشخصي، والواقع السياسي الذي نعاصره ونتقلب ونصطلي في أزماته المتعاقبة هو بمنزلة كمبيوتر جديد معقد لا يمكن تشغيله إلا بنظام حديث، في حين أننا لا نزال نصر على تشغيله بواسطة «الدوس» المتخلف!

كل المؤسسات ومع مضي الوقت يتم تحديث أنظمة تشغيلها لمواكبة التعقيدات والتطويرات التي تطرأ عليها، واليوم، مثلا، تعمل كمبيوترات العالم كله بأنظمة «ويندوز» الحديثة وما شابهها، في حين أن دولة الكويت بكل سياساتها ومؤسساتها وأنظمتها وأزماتها والتحديات التي تواجهها لا تزال تصر على العمل وفق دستور عمره خمسون عاما، لم ينله أي تحديث أو تعديل أو تطوير، وهذا هو الجنون بعينه.

قد يقول قائل إن الدستور كان صالحا طوال سنوات طويلة مضت، فلماذا نتهمه اليوم بالفشل، وجوابي المباشر هو أن الثغرات والثقوب الدستورية لم تظهر اليوم فقط بل كانت موجودة منذ البعيد، ولكن كانت الحياة السياسية أقل تعقيدا وكذلك كانت النفوس الإيجابية التوافقية وإرادة الإصلاح من مختلف الأطراف تحرص على أن تسد هذه الثغرات والثقوب من خلال التجاوز عنها كي يسير مركب البلاد لخير الجميع، وأما اليوم فقد تزايدت الثقوب وانكشفت واتسعت وغابت النفوس الإيجابية التوافقية، وهذه طبيعة الأشياء مع تعقد الحياة وتسارع عجلتها، وصار حتما محتوما أن يتم إصلاح الدستور وتطويره إن لم يكن إعادة كتابته من جديد لانتشال نظامنا السياسي من هذه الرمال المتحركة التي يغرق فيها شيئا فشيئا!

أؤمن تماما أن الكويت أصبحت بحاجة ملحة إلى مؤتمر وطني واسع، على غرار «مؤتمر جدة»، يؤكد فيه الشعب تمسكه بأن تظل الإمارة في أسرة الصباح، ولكن على أن يجعل الحكم والإدارة في الشعب حقا، والذي هو مصدر السلطات جميعا كما قال دستورنا الحالي منذ خمسين عاما، وأن تبدأ بعد ذلك خطوات إصلاحية عملية لإنقاذ البلد من هذه الأزمة الخانقة، وذلك بحسب مراحل موضوعية يتم الاتفاق عليها وتطبيقها.

الكويت وصلت إلى مرحلة من الخطورة تجاوزت فيها القدرة على استيعاب المماحكات السياسية والشعارات الجوفاء، والتهديد «برفع السقف»، وهو الذي رفعته بعض الأطراف السياسية في وجه قيام الحكومة بتحويل قانون الدوائر إلى المحكمة الدستورية، لا يصلح أبدا أن يكون مجرد شعار سياسي يستخدم للتهديد. رفع السقف في حقيقته لمن يفهمه هو مشروع إصلاح وإنقاذ بلد لا بد أن يكون له صيغة محددة وملامح واضحة لا تصح أبدا أن تكون للاستهلاك الإنشائي وللصيحات والخطابات الجماهيرية في ساحة الإرادة... من يرد أن يرفع السقف حقا فلا يصح أن يتنازل عن ذلك أبدا.

ولهذا فمن من الخطأ الجسيم اليوم، بل لم يعد من المقبول أبدا وضع الثقة بأي طرف لا يمتلك مشروعا سياسيا إصلاحيا إنقاذيا متكاملا وواضحا، فقد مل الناس من هذا الضياع، وآن لهم الخلاص من سيطرة نواب وجماعات سياسية لا تمتلك سوى التهديد والوعيد والتهييج دون تقديم معالجات وحلول حقيقية!