في المرة الوحيدة التي التقيت فيها المخرجة والممثلة السعودية عهد، سألتها: «متى كانت آخر مرة زرت فيها السعودية؟»، فردت عليَ من دون تردد: «إنني أقيم فيها منذ سنوات».

Ad

تسبب إجابتها في ذهولي وأثارت فضولي؛ فقد خيل إليَ أن الفتاة الشابة التي اختارت لنفسها طريقاً مستقلاً تمردت فيه على التقاليد المتزمتة والطقوس الجامدة للمجتمع المتحفظ، الذي ولدت في كنفه، وكانت أول سيدة سعودية تدرس الإخراج والتمثيل في الولايات المتحدة الأميركية، وأدمنت العمل في بلاتوهات «هوليوود»، ستخشى العودة إلى مسقط رأسها، خشية أن تُجبر على اعتزال التمثيل أو هجر الإخراج، وإلا صارت منبوذة في مجتمع ذكوري لا يعرف للمرأة وضعية، ولا يعترف لها بحقوق!

هذا ما تصورته، وأكده لي بعض التقارير الصحافية، التي قالت إنها تقيم في نيويورك، لكن عهد كامل، وهذا اسمها بالكامل، «قطعت قول كل خطيب»، عندما نفت بشكل قاطع ما أشيع حول إقامتها في «منفى اختياري»، وبرهنت على ما تقول بفيلمها الروائي القصير «حُرمة»، الذي صورت غالبية مشاهده في منطقة «الهنداوية»، وقدمت من خلاله وجه مدينة جدة الآخر؛ حيث الفقر والعشوائيات، بعيداً عن الصورة النمطية المعتادة للمدينة الشهيرة، التي عُرفت بالبنايات الشاهقة والأبراج التي تناطح السحاب، والأغنياء الذين يرتدون أغلى الملابس، ويرتادون أفخر المطاعم، ويستقلون أحدث طُرز السيارات.

لم تكتف عهد بهذا، وإنما طرقت بجرأة تُحسب لها أزمة المرأة السعودية الشابة «أريج»، التي فقدت زوجها وتخشى على حملها، وتعيش من دون أهلها، وتواجه الكثير من الصعاب، على رأسها نظرة المجتمع السعودي إلى المرأة التي تعيش بلا محرم، والذئاب الذين يحلقون من حولها، وينتظرون اللحظة التي ينهشون فيها جسدها وما تبقى من إرثها، ولا يُستثنى منهم شقيق زوجها الراحل، الذي لا يتورع عن إلصاق أبشع التهم الأخلاقية بها، ويضعها في مواطن الشبهات، لمجرد أنها تعاطفت مع صبي وجدته مثخن الجراح فاقتادته إلى منزلها لتطببه وترعاه. ومن خلاله طرحت مخرجة الفيلم وكاتبته أزمة «البدون»، الذين يولدون ويعيشون في المملكة ولكنهم لا يحملون جنسيتها، ولا جنسية أية دولة أخرى، وفي سعيهم إلى الرزق يقعون ضحايا لأعمال مشبوهة، كترويج المخدرات!

بالطبع كانت هناك صعوبة في العثور على الفتاة السعودية، التي توافق على «تمثيل» شخصية «أريج»، فما كان من عهد سوى أن تقمصت بنفسها  الشخصية الدرامية، وجسدتها بإحساس مُرهف وإقناع واضح، كما اجتازت بنجاح تجربة الجمع بين الإخراج والتمثيل، وقدمت فيلماً لا يخلو من جرأة، ولا يفتقر إلى التمرد، ويعكس ثقة شديدة بالنفس، ورغبة عارمة ومحترمة من عهد في رصد وضعية المرأة في المجتمع السعودي المحافظ، ووضع تفسير جديد لمعنى «حُرمة» يؤكد على أهمية تبجيل وتوقير «حُرمة الحياة» بأكملها.

انتهزت المخرجة والممثلة السعودية عهد فرصة زيارتها للقاهرة، قبل سفرها للمشاركة في النسخة الثالثة لمهرجان «الدوحة ـ تريبيكا»، الذي أعلن عن فوزها بجائزة التطوير، ووجهت الدعوة إلى عدد محدود من نقاد السينما المصرية لمشاهدة «حُرمة»، بالإضافة إلى تجربتها الإخراجية الأولى في الفيلم الروائي القصير The Shoemaker أو «القندرجي»، الذي أنتج عام 2009، وقامت ببطولته مع عمرو واكد، وأظهرت من خلاله أن الجرأة جزء من شخصيتها، وأنها صاحبة أسلوب خاص كمخرجة تعرف كيف توظف لغة الصمت والإضاءة والظلال لتقدم قصيدة سينمائية راقية ورقيقة، فرغم كونه فيلمها الأول إلا أنها اقتربت من قضية شائكة للمواطن «صابر» (لاحظ مغزى الاسم) «صانع الأحذية» العراقي، الذي خرج لتوه من المعتقل، لكنه يعود إلى عائلته الصغيرة وجيرانه أقرب إلى «الحطام البشري»، بعد أن انتهكوا جسده اليافع، وقتلوا روحه البريئة، واغتالوا إرادته الوثابة، ولم تعد فيه رغبة في الحياة ولم يعد قادراً على استعادة نفسه وحياته مع زوجته الشابة وابنه الذي تمناه. وفي مشهد بليغ للغاية يفشل في النوم فلا يجد غير غطاء الرأس الأسود الذي كان يُستخدم في السجن لإخفاء وجهه فلا يرى جلاديه، فقد انكفأ على ذاته وكأنه يتمنى لو أتاه الموت ليخلصه من عذاباته (عبرت المخرجة عن المعنى بتصويره وهو نائم في وضع الجنين)، وبدا أن الجرح الذي أصابه (آثار الجلد ما زالت على ظهره) لن يندمل طوال العمر.

لا يعنيني هنا أن «القندرجي» فاز أيضاً بجائزة ألف الذهبية لأفضل فيلم قصير في منطقة الشرق الأوسط في مهرجان بيروت السينمائي الدولي، وبالجائزة الثانية في مهرجان الخليج السينمائي في دبي، كما جرى التنويه إليه بشكل خاص من لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان وهران في الجزائر، لكنني أتوقف عند فتاة عربية شجاعة رفضت أن تنضم إلى «الحريم»، وأصرت على أن تتحرر من الطوق الذهبي الذي يحيط بعنقها، وحطمت الأغلال والقيود التي تكبل يديها، واختارت طريقها بإرادة حرة وشخصية مستقلة، واعتزاز واضح بالذات.., فتذكروا اسم «عهد كامل».