{غرفة مطلّة على الحرب} لإديث بوفييه... صورة دموية عن الحرب الهمجية (2-2)

نشر في 18-12-2012 | 00:02
آخر تحديث 18-12-2012 | 00:02
بلغت موجة الربيع العربي العاتية سورية في أواخر عام 2010، فاشتعلت التظاهرات في مختلف المدن والبلدات السورية مطالبةً بسقوط نظام بشار الأسد. إلا أن هذا الأخير أبى الإصغاء إلى صوت شعبه، بل صوّب نحوه أفواه البنادق والمدافع. كانت لمدينة حمص الحصة الكبرى في ظلم النظام، فحوصرت وقُصفت وقُتل الكثير من أبنائها. تمكَّن الجيش السوري الحر من تحرير حي بابا عمرو في مدينة حمص، فتحوّل إلى أحد أبرز معاقل الثوار.
بيد أن النظام رفض التسليم، وإن عنى ذلك إراقة دماء المدنيين. فطوّقت دباباته الحي وراحت تدكه بلا كلل إلى أن هجره معظم سكانه. في النهاية، قرر الثوار الانسحاب من الحي لتدخله قوات النظام بعد أن تحوّل إلى مدينة أشباح. قرر عدد من المراسلين كشف حقيقة ما كان يجري في ذلك الحي، ولم يتراجعوا رغم المخاطر التي شملتها مهمتهم هذه، فتسللوا سرًّا إلى الحي لينقلوا صور الدمار والخراب. لكن جيش الأسد لم يوفّر حتى الصحافيين، فلقي اثنان منهم حتفهما في بابا عمرو، في حين تعرّضت المراسلة إديث بوفييه لإصابة في ساقها، فقررت أن تكشف للعالم مأساة بابا عمرو ومعاناتها هناك في كتابها الأخير Chambre Avec Vue Sur La Guerre. وإليكم الحلقة الثانية منه:

قبل خمسة أيام

يوم الجمعة 17 فبراير 2012

وصلنا أنا ووليام إلى بيروت قرابة المساء. كانت الطرقات محمّلة بالغبار. فيما راح سائق سيارة الأجرة التي نستقلها يطلق السباب، مستمتعًا بنعت السائقين الآخرين كلهم بالحمير. تأملت بفرح عبر نافذة هذه المدينة المميزة. كانت الشمس قد شارفت على المغيب، فانفجرت ألوانها. قبل بضعة أيام، كنت أتنقل تحت ثلوج اسطنبول. لذلك عانقت هذه المدينة، هذه الضوضاء، وهذا السخط الذي تعلمت أن أحبه بمرور الزمن.

تُعتبر بيروت معبرًا لا مفر منه لكل مراسلي البقع الساخنة في المنطقة. يقصدونها ليدفنوا مخاوفهم في إحدى حاناتها الكثيرة، ليصغوا إلى أم كلثوم، ولينسوا أنفسهم وسط مخلفات الصراعات الأخيرة. عانى لبنان منذ عام 1975 حروبًا عدة، فرُسمت في بيروت حدود غير مرئية. بتبدَّل الجو السائد بأكمله بالانتقال من حي إلى آخر، وتتغير الألوان وحتى اللغة. لكن الحياة في أنحاء بيروت كافة سريعة تضج حيويةً، كما لو أن كل لحظة هي الأخيرة، وتختلط مجتمعاتها أحيانًا وتنصهر إلى أن تشكّل بلدًا.

تعلّم سكان هذه المدينة مع الوقت الحذر من الأبنية الحكومية والجسور لأنها تشكّل الهدف الأول خلال عمليات القصف. لكنهم تعلّموا أيضًا الاحتفال، الاحتفال بلا حدود، الاحتفال للنسيان. في الصباح الباكر، ننضم إلى حشود العائدين من السهر حتى ساعات الصباح الأولى لنشتري منقوشة الصعتر، التي ترى كثراً يتناولونها على طول الكورنيش المحاذي للبحر.

خلال إحدى زياراتي الأولى إلى هذه المدينة، سألني والد صديق لي عمَّا إذا كنت أفهم السياسة في لبنان. فأومأت برأسي نفيًا، وعلى وجهي علامات الأسف. انفجر ضاحكًا، ثم نظر إلي بجدية وقال: «فهمت هذه المسألة جيدًا».

اجتزنا المدينة التي لم تخلع عنها بعد أثار الحرب كلها، فرأينا الشرفات المتداعية والجدران التي مزقها الرصاص. تخال أن المدافع والقناصة قرروا الالتزام بهدنة موقتة، وأن الحرب قد تعود غدًا. في غضون ثلاث دقائق وبعد انطلاق بوق السيارة خمس مرات، نزلنا طريق الأشرفية لنصل أمام المبنى الجديد الضخم والمميز لمتجر «فيرجن ميغاستور». بدت لي هذه الأحياء العصرية أشبه بعالم ديزني الذي يمرح فيه السياح الأميركيون والمستثمرون السعوديون.

ترجلنا من سيارة الأجرة أمام حانة عصرية في الحمرا، منطقة فاخرة تقطنها الطبقة البورجوازية العصرية. كان الضجيج يملأ الشوارع التي لا تعرف الحياء. تحوّلت هذه المنطقة خلال فترة وجيزة إلى مكان جامع، إلى مانهاتن صغيرة، إلى استثناء مميز في لبنان. يتعايش فيها الطلاب والصحافيون والفنانون والمثقفون، بغض النظر عن انتماءاتهم. يكفي أن تكون عصريًا، فالحمرا ترحب بالميول كافة.

يبدو التوتر خفيًّا تحت أشعة شمس الشتاء، فلا أحد يتحدث عن التطورات التي تشهدها الدولة المجاورة وعن أعمال العنف الأخيرة في دمشق. فما كان يشغل اللبنانيين في ذلك اليوم إلا همّ واحد: ألقت مجموعة مجهولة صباحًا مادة حمراء ملوَّنة في النهر الذي يعبر بيروت. كان استنكار الجرائم المرتكبة ضد المجتمع المدني في سورية واضحًا. ولكن رغم الدماء السورية التي تسيل في بلد مجاور، تمسَّك شارع الحمرا بـ{وقاحته».

لا أعرف الحانة التي قرر ريمي أوشليك لقاءنا فيها. كان الضوء فيها خافتًا، وقد اكتظت بالناس. فمع أن الساعة لم تتجاور السابعة مساء، كانت الصالة الأولى ممتلئة. وصلنا قبل الموعد المحدّد، لذلك لم يكن ريمي قد حضر بعد. عثر لنا وليام على طاولة صغيرة محايدة قليلاً. أخرجت علبة سجائري وانغمست، أنا الفرنسية، في متعة التدخين في حانة مكتظة كان معظم مرتاديها شبانًا فرحين لا همّ لهم في الحياة. راحوا يشربون الجعة أو «الكوكتيلات» في كؤوس مميزة ويضحكون بالفم الملآن. كانت خفتهم واضحة وسعيهم إلى إشباع ملذاتهم جليًّا، لأنهم يعون أن كل يوم قد يكون الأخير. هذه معضلة مدينة تتعرض دومًا للقصف. رغم ذلك، اعتادت إقامة حاناتها في أعلى أبنيتها، كما لو أنها تعاند طائرات الأعداء.

فيما كنا ننتظر ريمي، تأملت هذه المجموعة الغربية من أهل بيروت. جلس وراءنا خمسة رجال في عقدهم الرابع يرتدون بزات، وكانوا يستمتعون بشرب البيرة بعد خروجهم من المكتب. إلى اليمين، تحلق عدد من الأزواج الشبان في عشريناتهم، كان الأكبر سنًا بينهم يلعبون الورق. أما الشابات المتزينات بأزياء أوروبية، فاستمتعن بأكواب من البوظة تفوق بحجمها ما قد تتجرأ أي فرنسية على تناوله في مكان عام، في حين اكتفى الشبان، الذين راحوا يتجاذبون أطراف الحديث بأصوات جهورية عالية، بتناول الفستق الحلبي.

بعد دقائق من وصولنا، دخل ريمي في الوقت المحدَّد. كان شعره قصيرًا وعيناه الزرقاوان اللازورديتان مشعتَين. لا يسعك إلا أن تُلاحظهما. لا يُعتبر ريمي الهادئ اللطيف القليل الكلام شخصًا بسيطًا، فهو المغامر بكل ما للكلمة من معنى. كان ينتظر منذ أيام الانطلاق إلى سورية. فاضطر إلى تمضية أيامه في الفندق، لا يجرؤ على مغادرته لأن «منظم الرحلات»، الذي يتولى نقلنا سرًّا إلى سورية، قد يعلمه بضرورة الانطلاق في أي لحظة. هكذا تسير هذه المسائل عادةً. علينا الانتظار. وبخلاف ما يعتقده كثر، لا يقوم عمل المراسل دومًا على الحركة والتشويق، فالانتظار أساس مهنتنا.

تعلمت الصبر في العراق، فقد قصدت هذا البلد لأكتسب المزيد من المهارات في عملي. لكني وجدت نفسي وحيدة في هذا العمل الميداني، وكان علي الانتظار.

كان من المفترض في أواخر شهر أغسطس عام 2009 أن ينسحب الجيش الأميركي من المدن الكبرى في البلد، فسافرت إلى العراق لأعدّ تحقيقًا عن تدريب الجنود العراقيين وأغطي عملية انتقال السلطة. غزا الجيش الأميركي عام 2003 العراق بهدف الإطاحة بنظام صدام حسين، إلا أنه علق وسط صراع طائفي بين الغالبية الشيعية والسنة، طائفة الرئيس المخلوع. فتحوّل الجنود الأميركيون إلى هدف العمليات الانتحارية الدائم.

استُهدف المطعم المواجه لمدخل المنطقة الخضراء، التي ضمت القاعدة الأميركية. ولا تؤمن الدولة إلا ثماني ساعات من الكهرباء يوميًا وأقل في بعض الأيام. لذلك كانت المتاجر التي لا تملك مولدات خاصة بها تغرق في العتمة، فتبدو مقفلة والشوارع خالية. ما كان العراقيون يخرجون من حالة الخمول هذه إلا نحو المساء. في تلك الفترة من النهار، تخرج النساء للتبضّع، العشاق للتنزه على طول نهر دجلة، والرجال لمناقشة شؤون الحياة وهم يرتشفون الشاي في ساحات المدينة الكبرى: هدوء ما قبل العاصفة.

في ذلك الصيف، تنامى التوتر، خصوصًا بعد مقتل بضع مئات من الجنود ورجال الشرطة، الذين كانوا لا يزالون قيد التدريب. لا شك في أن هذه التطورات لا تُقارن بالرعب الذي ساد عامَي 2006 و2007، حين تحوّلت الانفجارات إلى حدث يومي، وباتت فلول تنظيم القاعدة تتحكم في طرقات بغداد. إلا أن أخبار العنف الغامضة الأخيرة أعادت إلى الأذهان ذكريات أليمة دفينة، فتسلل القلق إلى قلوب السكان المحليين. وشكك بعض السياسيين في قدرة قوى الأمن العراقية على التصدي بمفردها لهذه الاعتداءات.

تجاوزت الحرارة الأربعين درجة، وما انفك الوشاح الأسود الطويل الذي ارتديته دومًا يلتصق ببشرتي. إلا أن ذلك لم يكن سبب استيائي الوحيد، فقد تحوّل تحقيقي إلى مشقة، إذ صعب علي الاقتراب من الجنود الأميركيين والعراقيين. لم أستطع أن أفهم لماذا كانت المسائل كافة تتطلب الكثير من الوقت. لكني كنت أنا سبب المشكلة وسط هذا الهدوء والحرارة المرتفعة: فقد قللت من عواقب صوم شهر رمضان، الذي بدأ قبل بضعة أيام. دخلت حياة العراقيين في حالة من الجمود. كنت آنذاك مبتدئة، ولم أعِ خطأي هذا. لذلك تحوّل سعي وراء المقابلات إلى بحث عقيم ومهمة شاقة.

أمضيت ساعات طويلة أمام رجال شواربهم طويلة يرتدون زيًّا أخضر داكنًا. أُرسلت من مكتب إلى آخر. أوضحت طلبي، أصررت عليه. عدت إلى المسؤول. أوضحت طلبي مجددًا لأجد نفسي مرة أخرى أمام الموظف ذاته الذي بعثوا بي إليه في البداية ليتخلصوا مني.

مع كل موعد جديد مع مسؤول، كنت أعتقد أنني سأنال مرادي، أنني غدًا إنشاء الله سأبدأ تحقيقي.

دفعني سعيي العقيم هذا إلى الجنون. في البداية، كنت أجلس مستقيمة في كرسيّ، واثقةً من موقفي، كلّي رغبة في الانطلاق، في النزول إلى الميدان والانتهاء من تحقيقي. ولكن مع مرور الساعات والتنقّل المستمر بين المكاتب، احدودب ظهري، ارتخى جسمي، وصرت أتكلّم بهدوء.

حلمت بالعمل في ساحات المعارك وفي قلب الحدث، ولكن ها أنا أتحوّل إلى طلب منسي تحت غبار الوزارات. لم تكن هذه الفكرة التي كوّنتها عن تحقيقي، فقد أردت الإسراع للقاء كل أولئك الرجال الذين وددت سرد قصص حياتهم، لجمع تلك الروايات التي رغبت في اكتشافها، ولعرض الصراعات التي ابتلت ذلك البلد. لكني أُرغمت على تمضية الوقت في العبث بهاتفي المحمول وتهدئة أعصابي بالتسلي بلعبة السودوكو السوداء والبيضاء، التي اكتشفتها صدفةً في إحدى زواياه المنسية.

مع مرور السنوات وتعدد التحقيقات، فهمت أخيرًا وتقبّلت أنني لن أمضي الجزء الأكبر من وقتي في اختراق صفوف الأعداء، بل في الانتظار دومًا وأبدًا، انتظار الرجل المناسب الذي يسهّل عبوري إلى المرفأ المناسب، انتظار الشاهد الملائم الذي لا يضللني، انتظار الوسيط الأهم الذي يملك المعارف الأفضل ويستطيع أن يفتح أمامي الأبواب الكثيرة لأنجز تحقيقي ويخرجني من أي مأزق، انتظار الطقس الجيد، الهدنة أو بالأحرى انهيارها، انتظار التحقق من صحة معلومات أو التأكد من المصادر، انتظار الإلمام بالموضوع من جوانبه كافة قبل الانكباب بعينين مغمضتين على المقابلات.

كم مرة ظللت أسيرة غرفة الفندق وأنا أشاهد بمفردي فيلمًا لأعاود بعد ذلك الاتصال بالوسيط! أروح أتأمل خرائط المنطقة التي أخطط لدخولها، ألجأ إلى النافذة، أتصل مجددًا بالوسيط، يتملكني اليأس، أشاهد فيلمًا آخر شاهدته مئات المرات.

هذا ما تعلمته من تحقيق إلى آخر. لكني تعلمت أيضًا الانطلاق بسرعة ما إن تتسنى لي الفرصة. تعلمت أن أوضب أمتعتي في دقائق. اعتدت إبقاء لائحة الأشياء الضرورية معلقةً على طاولة مكتبي. كذلك تعلمت من الإصغاء لزملائي أن أثق بنفسي وأن أختار المواضيع الجيدة. قد تبدو الأخبار التي أنتقيها تافهة أحيانًا ولا تلقى رواجًا كبيرًا، إلا أنها تؤثّر فيّ، تمسّ مشاعري، وتتيح لي رؤية وجهة نظر أخرى، الوجه الآخر المنسي من التاريخ، من الصراع، ومن المنطقة.

كان ريمي يعاني مرحلة الانتظار الصعبة هذه منذ أيام، لذلك اعتبر وصولنا مناسبة للاحتفال. راح هو ووليام يتحادثان عن مغامراتهما الأخيرة، فيما اكتفيت أنا بتأملهما وعلى وجهي ابتسامة خفيفة. يتحلى وليام وريمي بهدوء مميز. لم يسبق لي أن قابلت ريمي إلا خلال عملي على تحقيق ما أو في لقاء عند أصدقاء مشتركين. ولكن خلال تلك الأمسية، تشاركنا ونحن نشرب الجعة في سرد أجزاء من حياتنا، آرائنا، أحلامنا، وتمنياتنا. شعرت أن عينيه الزرقاوين الفاتحتين العميقتين تخترقان نفسي لتخرجا منها أفضل ما فيها. كذلك أثرت فيّ ابتسامته والهدوء الذي يلازمه. تنبعث منه طاقة غريبة، ويعرب عن كرم لا حدود له. ماذا عن تلميحاته الساخرة، قدرته على انتقاد نفسه بأسلوب مضحك، وبعض الكلمات التي تعمد النطق بها بلهجة أهل اللورين في فرنسا كي يحملني على الضحك؟ راح يخبرنا أيضًا عن حبه الجارف لصديقته إيميلي ورغبته في تحقيق الأفضل دومًا في عمله كما في حياته الخاصة.

ظللنا حتى وقت متأخر من الليل نتحدث ونحن نشرب الكأس تلو الأخرى عن التحقيقات والصور التي سنحظى بها. أدخلت عزيمته الطمأنينة إلى قلبي، وحدّت من قلقي ومن تلك المخاوف كافة التي نحاول جميعنا إخفاءها.

معقل الثورة

التقيت ووليام صديقنا ريمي في بعد ظهر اليوم التالي وقررنا القيام بحملة شراء أخيرة. كان ريمي بحاجة إلى جوارب وغلاف واقٍ لهاتفه المحمول وبعض الأغراض الأخرى. تولى نصري، أحد أصدقائنا اللبنانيين، مهمة إرشادنا. ثم قصد ريمي صرافًا آليًّا ليسحب المال كي يدفعه «لمنظم الرحلات». لكنه عاد وعلى وجهه علامات الاستياء: «لا يمكنني الحصول على دولارات. ما هذا البلد؟». فانفجر نصري ضاحكًا ورفع يده عاليًا، مشيرًا إلى اسم المصرف: المصرف الإسلامي. فمن الطبيعي ألا يقدّمون الدولارات. كان من المتوقع أن ينطلق ريمي فجر اليوم التالي، فعانقنا وانطلق عائدًا إلى الفندق ليستعدّ لرحلته.

غادر ريمي صباح يوم الأحد. أما نحن فانطلقنا في اليوم التالي، قاصدين المنطقة ذاتها: حي بابا عمرو في حمص، الذي يشكّل معقل الثورة ويتعرض لقصف متواصل من الجيش النظامي. حاصر الجيش الموالي لبشار الأسد المدينة، وقد أقام أحد عشر حاجزًا كي يتحكم في مداخلها ومخارجها كافة. أما حي بابا عمرو، فطوقته الدبابات، ويتعرض بشكل متواصل لنيران المدفعية. لذلك هرب معظم سكانه من منازلهم. أما مَن بقوا، فيختبئون في الأقبية ويعيشون في حالة صحية وإنسانية يُرثى لها.

تدفع حمص ثمنًا باهظًا لقاء تمسكها العنيد بالثورة السورية. ومنذ الرابع من فبراير، بات القمع أكثر وحشية. تشكّل حمص، التي قصدناها، ثالث كبرى المدن السورية. كانت من بين أولى المناطق التي انضمت إلى حركة الاحتجاج، التي ولدت في شهر مارس عام 2011. حتى باتت اليوم أحد حصون الجيش السوري الحر.

اعتُبرت حمص وضواحيها سابقًا مصدرًا مهمًا يمدّ الجيش السوري بمعظم جنوده، فالكثير من جنود النظام ينتمون إلى العائلات الكبيرة في هذه المنطقة. لكن خلال الثورة، تغلّب إخلاص هؤلاء الجنود الأسري على ولائهم للسلطة المركزية. نتيجة لذلك، وقف عدد منهم إلى جانب المتظاهرين. كذلك انضم عدد من المدنيين إلى صفوف الجيش الحر.

استغلت السلطات السورية التوتر بين مختلف المجتمعات في حمص وأججته، ما زاد استياء السكان من النظام. فمنذ الانقلاب الذي استلم على أثره حافظ الأسد السلطة في سورية عام 1970، انتقلت مجموعات من العلويين، الطائفة التي تنتمي إليها عائلة الأسد، للعيش في حمص، مدينة ذات أكثرية سنية.

لطالما بدّى النظام السوري العلويين في مسائل عدة، من بينها توزيع الوظائف الحكومية في القطاع العام والدفاع والتعليم. فباتوا يشغلون أهم المناصب في الدولة نتيجة العصبية الجديدة التي هيمنت على السلطة. فاعتبر الشعب هذا التمييز في التعامل مع الطائفة العلوية ظلمًا، ما زاد من تصميم المتظاهرين.

في حالة الانقسام التي تعيشها سورية اليوم، لجأ العلويون إلى منطقة اللاذقية. ففي عام 1920، أنشأت فرنسا، عندما قسّمت البلاد، دولة علوية في تلك المنطقة الساحلية.

كنا نعرف يقينًا مدى خطورة البقعة التي نقصدها. لكننا تصرفنا كما لو أن شيئًا لم يكن، كما لو أننا لا نسمع دوي القصف. لجأنا إلى المزح واللهو، كما لو أننا نستميل القدر. فلا مفر من الذهاب إلى تلك المنطقة لأن الصراع فيها لا يحظى بتغطية كافية، لأن من الضروري كشف ما يجري هناك، ولأن هذا عملنا.

لا شك في أننا كنا خائفين، وأننا كنا نعي المخاطر. إلا أن الرغبة في فهم ما يحدث، في رؤية الحرب عن كثب، في رؤية ما تحمل من فظائع، كانت الأقوى.

22 فبراير 2012 -  الساعة التاسعة

انطلقت السيارة بسرعة قصوى في حي بابا عمرو. كان الخراب والغبار والركام تعمّ تلك الشوارع الضيقة. اختلطت صور بقايا المنازل المدمرة بمشاهد السيارات المحترقة. كانت أعمدة الكهرباء ملقاة أرضًا، وتشابكت أشرطتها بأجسام الحيوانات النافقة. بذل السائق قصارى جهده ليتفادى قطع الطوب المتهاوية من الأبنية والتي ملأت الطرقات. ضاعت أشكال الأبنية في خلفية السماء وراءها، إذ اتشحت كلها بذلك اللون الرمادي واكتست الطبقة السميكة عينها من الغبار والبطون. فخُيّل إلي أننا نجتاز شبح مدينة مهجورة رحل قاطنوها كلهم. فلا ترى فيها طيف إنسان، ولا أي كائن حي.

عندما وصلنا إلى المدينة أمس، كانت عتمة الليل تخفي بصمات الحرب والقصف. اضطررنا إلى اجتياز ثلاثة كيلومترات سيرًا على الأقدام في نفق لتصريف المياه لا يتعدى ارتفاعه المئة والستين مترًا وعرضه المتر. استغرقت هذه المهمة الشاقة ساعتَين، ظللنا خلالهما مقوسي الظهر وأقدامنا في الماء والوحل في جو خانق.

back to top