تمنح لوائح المهرجانات السينمائية إداراتها الحق المطلق في استبعاد الأفلام التي تراها غير ملائمة لمسابقاتها وتظاهراتها، وغالباً ما يتم تحصين المهرجان من المسائلة بجملة لا تخلو منها اللوائح كافة تقول: «من حق إدارة المهرجان استبعاد الفيلم من دون إبداء الأسباب». لكن الارتباك بلغ مداه في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، قبل ساعات من انطلاق دورته الخامسة والثلاثين (28 نوفمبر ـ 7 ديسمبر 2012)، عندما أعلنت إدارته أنها قررت استبعاد الفيلم السوري «العاشق» للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد من المسابقة الدولية، ولم تكتف بهذا بل بررت القرار، على لسان وزير الثقافة نفسه، بأنه جاء «بعد التثبت من أن مخرجه مؤيد للرئيس السوري بشار الأسد، وأن الفيلم من إنتاج الدولة السورية»!

Ad

تصريح غليظ يفتقد إلى «الديبلوماسية» وتعوزه «الكياسة»، التي كان ينبغي على الوزير أن يتحلى بها؛ فما قاله لا يصدر عن «ضابط صغير» في  جهاز أمني، وليس وزيراً للثقافة يفرض عليه موقعه أن يلم شمل الأشقاء، ويربأ بنفسه عن التورط في أي مخطط لتأجيج الفتنة وبث الكراهية والإيقاع بين السينمائيين والمثقفين المصريين ونظرائهم العرب!

خلط معيب بين الثقافة والسياسة يعكس ضحالة وعي وزير الثقافة، الذي قال إن قرار استبعاد «العاشق» جاء من منطلق أن «النظام المصري» له موقف ضد «النظام السوري»، ويرفض التعاون معه على الأصعدة كافة، وهي الضحالة نفسها وقلة الخبرة التي دفعت المدير الفني للمهرجان ماريان خوري إلى استبعاد الفيلم السوري من دون إبداء الأسباب، ربما لأنها لا تملك مبررات منطقية ومقنعة، أو لأنها اتخذت القرار بناء على ضغوطات من «جهات عليا»!

المفارقة العجيبة أن المادة الأولى من لائحة مهرجان القاهرة السينمائي تؤكد أنه يهدف إلى «دعم التفاهم بين شعوب العالم» فيما يعكس قرار استبعاد «العاشق» تدميراً وقحاً للعلاقات التاريخية بين الشعبين المصري والسوري، وضلوعاً صارخاً في مؤامرة تستهدف إجهاض هذه العلاقات، التي لا تشغل، في ما يبدو، اهتمام القيمين على المهرجان، الذي تحول إلى «مهرجان القاهرة (العدائي) الدولي»!

خطوة فيها تجرؤ، وقرار يحمل تطاولاً مهيناً على مخرج بحجم عبد اللطيف عبد الحميد، الذي يُعد أحد أهم المخرجين، ليس في سورية وحدها، بل في المنطقة العربية بأسرها، فلا يمكن لعاشق حقيقي يعرف قدر السينما ويفهم رسالتها وجمالياتها أن يبخسه حقه، أو ينزع عنه موهبته، التي كان لها الفضل في احتلال السينما السورية مكانة مهمة في المحافل الإقليمية والدولية، بباقة من الأفلام التي تُشع سحراً ورومانسية وشجناً وعذوبة مثل: «ليالي بن آوى، نسيم الروح، قمران وزيتونة، ما يطلبه المستمعون، خارج التغطية، رسائل شفهية»، وكانت سبباً في أن يحصد عبد اللطيف عبد الحميد جوائز رفيعة كثيرة، بأسلوب «السهل الممتنع» الذي اعتمده وميزه عن أقرانه من المخرجين العرب، في الوقت نفسه الذي حظيت أفلامه فيه بتجاوب كبير بين طوائف الجمهور السوري، ما شجع المؤسسة العامة للسينما في سورية للاحتفاء بأفكاره ودعم سيناريوهاته، بما يعني أن المخرج الموهوب، الذي درس في المعهد العالي للسينما في موسكو، ليس بحاجة إلى أن يبريء نفسه، في سياق حملة التشويه التي تعرض لها، من التهمة الحمقاء التي وجهها له بعض الانتهازيين والكارهين للقومية العربية، بأن مؤسسة السينما السورية ترصد لأفلامه ميزانية سنوية، كونه «ابن النظام» و{طفله المدلل»، وليس في حاجة أيضاً إلى التهافت على عرض فيلمه في مهرجان «العار السينمائي»، لأنه لا يُشرفه بكل تأكيد أن يجمعه مكان واحد مع حفنة من «السفهاء» و{الحمقى»!

ردة خطيرة أصابت مهرجاناً عريقاً عُرف بمواقفه الوطنية وتوجهه العروبي وغيرته على وحدة الأمة العربية، وهي الأسس التي أرسى دعائمها الكاتب الكبير الراحل سعد الدين وهبة، الذي افتتح إحدى الدورات بفيلم «ناجي العلي» ليرد على الاعتداءات الإسرائيلية التي استهدفت الفلسطينيين واللبنانيين آنذاك. وفي غمرة العنجهية الإسرائيلية، وغطرستها، صدمها وحطم غرورها بعرض  فيلم «الطريق إلى إيلات»، الذي ذكَر قادة الكيان الصهيوني بخيبتهم الثقيلة التي لن تُمحى من الذاكرة... وغيرهما من مواقف أكدت أهمية دور مهرجان القاهرة السينمائي في رأب الصدع الثقافي ولم شتات الفنانين العرب، بينما يكرس القيمون على مهرجان القاهرة اليوم، ومن ورائهم وزير «الثقافة»، أسباب القطيعة ويسهمون في إزكاء الخلاف وتأجيج الكراهية، باستبعاد أحد أهم المخرجين السوريين بحجة أنه «خائن» و{ذيل للنظام»!

إنها المصالح الضيقة، والتخوين المتعمد، لمآرب طائفية، لكن المريب في الأمر أن الذين انتفضوا اليوم للمطالبة باستبعاد المخرج العربي عبد اللطيف عبد الحميد هم أنفسهم الذين تبنوا، بالأمس القريب، الدعوة إلى فتح الباب للأفلام الإسرائيلية لتصبح متاحة في «عروض خاصة للصحافيين والنقاد والنخبة» تحت شعار: «اعرف عدوك»!