الكتابة تخلّد الفرح... والحزن يخلّد الكتابة!
الفرح يحتاج ما يبقيه على قيد الذاكرة... ويبقي ألوان أجنحته زاهية بإعادة طلائها بين الحين والآخر،يحتاج ما يجعل أنبوبة الأكسجين قريبة من فمه وأنفه وجاهزة للاستعمال في أي وقت... قبل أن تزرقّ سحنته، ويحتاج إلى من يفرك كفيه بين وقت وآخر ليسري الدفء في عروقهما ويستمر الدم فيها بالجريان.ويحتاج إلى قلب أم حنون يلاحقه بالتعاويذ ويرعاه، حتى لا يودي بنفسه إلى التهلكة.الفرح سريع التبخّر كـ"السبيرتو"، يحتاج دوماً إلى أن يُحفظ في زجاجة محكمة الإغلاق حتى لا تخطفه فجأة يد الهواء وترمي به في سلة النسيان.هذا تماما ما تفعله الكتابة.تُبقي أوراق الفرح طريّة ما استطاعت إلى ذلك سبيلا،تخلّد لحظة الفرح، وتحافظ على عطرها الفواح ما أمكنها ذلك،وكأن الفرح حمل هذا الجميل للكتابة وأقرّ به، فأوعز لشقيقه الحزن بأن يردّ ذلك الجميل للكتابة، والحزن لم يتوانَ ولم يتردد لحظة عن فعل ذلك.فعل الحزن كل ما في وسعه لإبقاء جمرة الحروف مشتعلة وقادة، وضوؤها لا يخفت مع الوقت ولا ينطفئ.يمسّد جسد الكلمات بماء العيون الممزوج بالملح النقيّ، ويدهن مفاصلها بدهن الشجن، ويبخّرها كل مساء بمسك الآهة.وكما أن تراثنا الأدبي حافل ومليء باللحظات المبهجة والسعيدة والتي مازال عبيرها ينبض بالحياة، كذلك فإن تراثنا الأدبي شاهد على أن الحزن قام بمهمته على خير وجه وأحسن ما يرام في حفظ وجه الكتابة شاباً نضراً، وجدائلها فاحمة السواد لم يداهم الشيب خصلة منها، بل ربما قام الحزن برد الجميل للكتابة مضاعفاً، فمقابل الكمّ الهائل من لحظات الفرح المكنوزة في حقائب قصائدنا وإبداعنا الأدبي على مرّ العصور، هناك ما يطغى عليه من الآهات التي ما زلنا نشعر بحرارتها بمجرد ما تقترب أصابعنا منها، ومن الدموع التي لم تجفّ ولم تنضب مآقيها مع الزمن وكأنما هي للتوّ انهمرت، فعلى سبيل المثال عندما نقرأ هذا البيت:بكت عيني اليمنى فلما نهرتها... عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معاًنتوجّع وكأنما هو قيل هذه اللحظة، ونشعر بالحرقة تأكل أنفاسنا، وكذلك نفعل عندما نسترجع نونيّة ابن زيدون، أو أي خابية حزن أخرى لغيره من الشعراء أو الكتاب.الحزن وحده هو من أبقى تلك الكلمات محفورة بالذهب على كعبة قلوبنا، ومنقوشة على مرايا ذاكرتنا.هو الذي ملأ أوردة الحروف بالدم المعتّق لتنتشي مشاعرنا بخمرة الشجن.وهو الذي جعلها باقة ورد عصي على الذبول!الحزن لم يألُ جهدا في إبقاء الكلمات حاضرة في متناول قلوبنا دائماً، حتى كدنا نشك في أن كلماتنا قد حملت فرحاً يوماً.
توابل - ثقافات
الثالوث المقدّس
22-11-2012