سورية وغزة... عدوان متطابق وأهداف متباينة
من الصعوبة بمكان أن تقوى على التمييز بين المشهدين في سورية وغزة، فالتشابه يكاد يكون مكتملاً من حيث القتل والتدمير والاستخدام المفرط للقوة ماعدا المكان والهدف، ولا غرابة في ذلك، فتقارب الجينات بين طرفي العدوان كبير، وهذا ما يفسر الدموية المفرطة لكليهما!.إضافة إلى حالة الوئام السائدة بينهما على مدى عقود وتحديداً منذ نكسة 1967، حيث قدمت الجولان لإسرائيل على طبق من ذهب ثمناً لصعود "حافظ الأسد" للسلطة بحركته التصحيحية، واستمرت حالة الوئام هذه إلى بداية الثورة السورية حيث انتقلت إلى مرحلة التحالف الاستراتيجي بإعلان الرجل الثاني بالنظام السوري، رامي مخلوف، أن "أمن إسرائيل من أمن سورية"!.
منذ وصول "حماس" إلى السلطة في غزة وإسرائيل لم تهدأ من العدوان عليها، لقلقها البالغ من مشروعها الراديكالي الممتد من النهر إلى البحر، فضلا عن أن غزة باتت حاضنة وقاعدة لكل الحركات الجهادية الفلسطينية، بل ومصنعاً مهماً لصناعة الصواريخ التي اعتبرها محمود عباس يوماً "عبثية"، واليوم أضحت استراتيجية وأمست المدن الإسرائيلية خصوصاً تل أبيب في مرماها.لهذا لم يكن الاعتداء الأخير على غزة اعتباطاً بل جاء حاملاً معه بنك أهداف استراتيجية، أهمها استهداف القادة الميدانيين، وتدمير المنظومة الدفاعية الصاروخية للمقاومة، واختبار القبة الحديدية وتدمير ما أمكن من البنية التحتية لقطاع غزة، فضلاً عن الهدف السياسي الأهم، وهو تعريض الربيع العربي عموماً، والمصري خصوصاً، لامتحان الإرادة ومدى قربه بل والتحامه بالقضية الفلسطينية خصوصاً غزة، التي اعتبرها رئيس الوزراء المصري "أمناً قومياً مصرياً".قد يستخف البعض بأهمية الربيع العربي ومكانته في قضايانا الوطنية والقومية ويعتبره محدود التفتح بسبب "حداثة العهد وإشكالية المشهد"، لكن الرؤية الاستراتيجية الإسرائيلية تراه عكس ذلك، فهي تدرك حجمه وما أحدثه من متغيرات على صعيد الحياة السياسية العربية، فالشارع العربي بات واسعاً ومعصم الشعوب صار معصوماً على القيد مع إدراكها، أي الشعوب، لقيمة الحرية وأهميتها، وهذا سيفرض على الكيان الإسرائيلي إعادة الحسابات بمجمل سياساته على ضوء الواقع العربي الجديد الذي وجّه رسالة قوية إليه عنوانها "فلسطين في القلب رغم الجراح"، وظهر التضامن العربي الرسمي والشعبي جلياً أثناء هذا العدوان. العدو يقرأ ونتنياهو يطلب التهدئة -على لسان زعيم "حماس"- والنظام الأسدي يقرأ ويتغول في الدم ويمعن في الإجرام، وببساطة شديدة يطلب الحوار لبدء الإصلاح!التماثل في السلوك لا يعني بالضرورة التماثل في الأهداف... فالصهيوني يختزن بداخله آلة قتل ودمار لكل فلسطيني وعربي، لكنه لا يستخدمها إلا لتحقيق هدف استراتيجي يتعلق بأمن شعبه وسيادته، أي ان عدوه خارجي المنشأ وشعبه هو المقدس.أما المستبد الأسدي، فإنه لا يتوانى عن فعل أي شيء بشعبه من قتل ودمار وإبادة واغتصاب إن مست سلطته وسلطانه أو حتى ذكر بسوء من أطفال على الجدران، وهذه العدوانية بل والروح الشريرة الساكنة فيه لم تأت من نوازع غريزية أو من جينات غير سوية فحسب، بل من ثقافة إجرامية شربها أولا من سربه، وأضاف إليها كل تجارب الاستبداد الدموي بالعالم بدءاً من نيرون ووصولاً إلى مدرسة حافظ الأسد.التهدئة تحققت بغزة وبطلب إسرائيلي وخرجت المقاومة الفلسطينية بعد هذا العدوان أقوى من ذي قبل، بل وفرضت شروطها على الاتفاق بحدود معقولة، وهذا بفضل صمودها وبفضل التضامن العربي معها. عكس النظام الأسدي الممانع الذي استغل التناقض الدولي حول مصيره ليزيد غَلّته من القتل والخراب بوطنه وشعبه، بل كان يستفيد حتى من المهل التي كانت تعطى له في زيادة الضحايا والدمار وكأنه في سباق مع الزمن لإنجاز مقاولة تدمير سورية.التهدئة لن تتحقق في سورية والنظام ماضٍ في دمويته وبنك أهدافه كل بناء وكل ما دب على الأرض السورية، وإسرائيل باتت على ما يبدو مقتنعة بحتمية زوال النظام الأسدي، لهذا جاء التحرك الأميركي- الأوروبي لفرض الحل من خلال هيكل معارض تم تشكيله على عجالة وأُعطي برنامج عمل للعمل بموجبه لئلا تخرج الأمور عن السيطرة وباتجاه غير محسوب... الثورة ماضية مهما تعددت الهياكل وإسقاط النظام وإقامة الدولة المدنية هما الهدف، بل هما بنك أهداف الثورة.