مانديلا... كيف حافظ على تاريخه؟
في حياة الأمم رجال عظام يظل يذكرهم التاريخ، وتعظمهم الشعوب ويتخذون من أفعالهم القدوة التي تجعلهم رموزاً وطنية، وإذا امتد بهم العمر يعرفون كيف يحافظون على تاريخهم، خاصة عند اعتزال المناصب السياسية، وعندما يقررون أن الأجيال الحالية هي الأدرى بواقع مجتمعاتهم والمتغيرات التي طرأت عليها سياسياً واقتصادياً، وهو ما يفعله حالياً الزعيم العالمي نيلسون مانديلا، ومن قبله المهاتما غاندي، والمستشار الألماني الكبير كونراد أديناور، الذي أخرج ألمانيا من تداعيات هزيمة الحرب العالمية الثانية، وأعادها إلى سكة الدول العظمى الصناعية والاقتصادية.هؤلاء الرموز العالميون والوطنيون حافظوا على سجلهم التاريخي، عندما قرروا في الوقت المناسب عدم التدخل في تفاصيل العمل السياسي اليومي والأزمات، ليكونوا قدوة للجميع وليس لصالح طرف على حساب الآخر، وحتى لا تكون مواقفهم وفقاً لحسابات قديمة لم تراع مستجدات الحاضر، لأن للسن أحكاماً وضرورات تحتم أن تختلف بيئة من يخالطهم المرء في كل مرحلة من مراحل العمر، ويضيق مدى هذه البيئة وتنوعها حتى تصبح محدودة جداً في المراحل المتقدمة من العمر، بحيث لا تمكننا من استيعاب كل وجهات النظر وأولوية احتياجات المجتمع الآنية، لإعطاء الوصفة الناجعة عند تعرض الوطن للمحن.
اليوم المناضل مانديلا لا يبدي أي آراء في القضايا السياسية اليومية في بلده، بل يكرر شعارات عامة تتعلق بالوحدة الوطنية والحرية وحقوق الإنسان دون تفاصيل، ويشارك جزئياً في مجلس الحكماء الذي أسسه في عام 2005، ومن قبله أصر المهاتما غاندي على عدم إعطاء رأي في خلاف الهندوس والمسلمين في بلده الذي نتج عنه تقسيم القارة الهندية بعد استقلالها عن بريطانيا العظمى، ما أثار حنق المتطرفين الذين اغتالوه لاحقاً، وهو ما فعله أيضاً المستشار الألماني أديناور، بعد تقاعده الذي قضاه بين التأمل والعمل في بستانه الملحق بمنزله وهو يردد أهمية إحياء روح الأمة الألمانية في الإنتاج وخدمة البشرية بمهارات شعبه العظيمة دون التعليق أو التوجيه في الأحداث المهمة التي عاشتها ألمانيا قبل وفاته في عام 1967.الزعماء التاريخيون الثلاثة، الذين ذكرتهم، ظلوا رموزاً تاريخية، ولم يسمحوا لأنفسهم بأن يخربوا رمزيتهم ومواقفهم التاريخية بأن يدخلوا أنفسهم أو يجرهم أحد أو يستكتبهم في قضايا في توقيت خاطئ، وفي مرحلة متقدمة من أعمارهم لا تتوافر لديهم خلالها أدوات استقراء الآراء وتحليلها، ومتابعة تداعياتها بالشكل الذي يتلاءم مع موقعهم ونضالهم ودورهم التاريخي في دولهم، كما أن مريديهم والمخلصين لهم يتحاشون أن يضعوهم في مواقف تجرح تاريخهم، وتبين أي نوع من التناقض أو التراجع في قدراتهم على اتخاذ المواقف الصائبة في التوقيت الصحيح، وفي الوطن العربي وبلدنا أيضاً هامات وطنية رفيعة ناضلت وقدمت للوطن والأمة العربية مواقف تاريخية وتضحيات مميزة نتمنى ألا تجر إلى التجريح وتذبذب المواقف في ظل الأزمات والتناقضات المتتالية في أجواء ما يسمى بالربيع العربي والأزمات المحلية بتفاصيلها الملتبسة، حتى تظل رمزيتهم خالدة وعلو قامتهم يلامس السحاب دائماً.