كان المنظر مثيراً للدهشة بكل تأكيد؛ فقد خرجت المذيعة على هواء التلفزة الوطنية حاملة كفنها، لتعرب عن استعدادها للموت "فداء لحرية الإعلام". حدث ذلك في مصر، في اليوم نفسه الذي كانت مذيعة أخرى تتهكم فيه على حال تلك التلفزة نفسها، بعدما باتت رهينة لرغبات جماعة "الإخوان المسلمين"؛ إذ قالت المذيعة أثناء قراءتها للنشرة: "نواصل تقديم نشرة الأخبار (الإخوانية)".

Ad

تم إيقاف المذيعتين عن العمل كما هو متوقع، قبل أن تحالا إلى التحقيق، لكن لا يبدو أن ذلك يمثل رادعاً لنزعة تمرد واضحة لدى قطاع كبير من العاملين في وسائل الإعلام المملوكة للدولة المصرية، والذين باتوا يدركون أن جماعة "الإخوان المسلمين" التي تهيمن على السلطة تريد أن تستخدم تلك الوسائل كأداة دعائية لها، تماماً مثلما فعل نظام الرئيس السابق حسني مبارك. لو قرأت معظم الصحف المملوكة للدولة في مصر الآن، لوجدت أنها تحاول أن تروج لجماعة "الإخوان"، وتهاجم التيارات والقوى المعارضة، خاصة بعدما نجحت "الجماعة" في استغلال صلاحيات قانونية موروثة من عهد مبارك، يقوم من خلالها "مجلس الشورى" (الغرفة الثانية بالبرلمان) بتعيين قيادات تلك الصحف. تريد "الجماعة" بسط هيمنتها على تلك الوسائل، عبر تعيين القيادات وتمويل العجز المالي المتفاقم؛ فمن يدفع للزمار، يسمع اللحن الذي يعجبه، ومن يعين السائق، يحدد وجهة السير.

لكن الإعلام في مصر واسع وممتد؛ فهناك أيضاً وسائل الإعلام الخاصة، التي يبدو أنها تمثل شوكة في حلق النظام، إذ تفرد مساحات واسعة للمعارضين، وتنقل مشاهد التظاهرات الصاخبة التي تعترض على الإدارة السياسية السيئة والمتخبطة للرئيس مرسي وحكومته، خصوصاً بعد إصدار الإعلان الدستوري الهزلي الأخير، وما وصفته نخب مصرية عديدة بأنه "عملية سلق للدستور".

ولذلك؛ فقد استخدمت الجماعة، عبر الأجهزة الأمنية على الأرجح، نفوذها في إجبار مالك إحدى محطات التلفزيون الخاصة على عدم استضافة المرشح الرئاسي السابق حمدين صباحي، وحينما تم إبلاغ المذيع المعني بذلك القرار، قدّم استقالته على الهواء مباشرة.

في اليوم نفسه الذي كان هذا المذيع يقدم استقالته على الهواء بعد منعه من استضافة صباحي، كان مذيع شهير آخر يمضي نحو ثماني ساعات في قاعة إحدى النيابات للتحقيق معه بتهمة "إهانة الرئيس".

أول أمس الجمعة، كانت مذيعة بالتلفزيون الفرنسي تغطي تظاهرة "إخوانية" في محيط الأزهر الشريف، حين اعتدى عليها المتظاهرون لأنها "علمانية، كافرة، من أنصار البرادعي"، وهو أمر مشابه لما حدث مع مراسل إحدى الصحف الخاصة المعارضة في الإسكندرية، والذي اتهم أنصار "الجماعة" بطعنه بسكين في وجهه. ليت الأمر اقتصر على ذلك؛ لكن مئات المتظاهرين من السلفيين وأتباع الشيخ حازم أبو إسماعيل توجهوا في اليوم نفسه إلى منطقة المدينة الحرة، حيث تبث القنوات الخاصة، وحاصروا المدينة، مطالبين بـ"تطبيق الشريعة"، و"تطهير الإعلام"، لأن "خراب مصر يأتي من هنا".

ليست تلك سوى حوادث متفرقة وقعت في يومين اثنين بحق إعلاميين ووسائل إعلام، لكنها توضح بما لا يدع مجالاً للشك أن ثمة حملة "إخوانية" و"إسلاموية" على حرية الإعلام، تستهدف إسكاته أو تركيعه وترهيبه.

تتضمن تلك الحملة أيضاً قصفاً إلكترونياً معنوياً مكثفاً، إذ يسود انطباع على نطاق واسع بأن جماعة "الإخوان" شكلت "ميليشيات إلكترونية"، يتفرغ أعضاؤها لشتم معارضي "الجماعة" وتجريحهم وتهديدهم، عبر هويات مصطنعة يشاركون بها في مواقع التواصل الاجتماعي والأقسام التفاعلية بالمواقع الصحافية الإلكترونية.

تنسجم تلك الحملة الشرسة مع التوجيه الاستراتيجي الذي يمكن رصده في تقييم مرشد جماعة "الإخوان" الدكتور محمد بديع للإعلام والإعلاميين، حين قال إن "بعض الإعلاميين مثل سحرة فرعون، والشيطان يوسوس لهم".

من هنا يمكن أن نفهم لماذا تم نعت الصحافية التي تعمل للقناة الفرنسية بـ"الكافرة"، وهو الأمر الذي يعززه أيضاً ما قاله أحد قيادات الجماعات السلفية، حين وصف الإعلام بـ"الفاسق والفاجر".

يسيطر "الإسلاميون" على وسائل الإعلام المملوكة للدولة، ويرهبون الإعلاميين، ويعتدون عليهم، بزعم أنهم "سحرة فرعون وفسقة وفجرة"، وهو الأمر الذي يشحن أنصارهم من البسطاء بـ"الأحقاد اللازمة" لإسكات الإعلام والإعلاميين باستخدام القوة.

الأمر نفسه يحدث في تونس أيضاً من دون تغيير يذكر، فالسيد راشد الغنوشي زعيم "حركة النهضة" التي تقود الائتلاف الحاكم هناك يرى أن "الإعلام هو الحزب المعارض للحكومة... الإعلام عدو الثورة، والعلمانيون يهيمنون عليه". ورغم أن حكومة حمادي الجبالي، التي تم تشكيلها في أكتوبر من العام الماضي، قامت بتعيين قيادات موالية في مناصب قيادية في إعلام الدولة، فإن صهر الغنوشي ووزير الخارجية رفيق عبدالسلام عاد ليعلن أن "الحكومة تريد تطهير الإعلام لكي لا يتحول إلى منابر معادية".

فصلت الحكومة التونسية مدير إحدى قنوات الدولة، وعينت تسعة مديرين جدد في الإذاعات العامة، وأصدرت مذكرة توقيف في حق مدير تلفزيون خاص قدم برنامجاً سياسياً ساخراً انتقد "النهضة"، وأحالت مذيعة إلى التحقيق لأنها انتقدت بعض سياسات الحكومة في برنامجها الإذاعي. تشير القراءة المتأنية إلى أن ما يحدث في مصر وتونس من السلطة الإسلامية إزاء حرية الإعلام يكاد يكون متطابقاً ومتفقاً في الخطوط العريضة والتفاصيل المحددة بشكل يثير الدهشة والقلق والانزعاج.

تبدأ سياسة الإسلاميين في البلدين تجاه المجال الإعلامي بتوجيه استراتيجي من قيادة روحية عليا، يحمل تقييماً واضحاً للإعلام، ويصفه بأنه "مجال معاد"، وينعت الإعلاميين بأنهم "فسقة أو فجرة أو كفرة أو خونة ومأجورون". وفي تلك الأثناء، تبسط السلطة سيطرتها على وسائل الإعلام المملوكة للدولة، فتحولها إلى أبواق لها، وتواجه المعترضين فيها بالإجراءات الإدارية المتعسفة، فتسحقهم أو ترعب زملاءهم. وبموازاة ذلك، تستغل السلطة بعض أخطاء الإعلاميين، وتروج لرغبة في "تطهير الإعلام"، وتحت هذا العنوان المثير، تحرض أتباعها "البسطاء" عادة على ممارسة فعل "التطهير" باليد، عبر الاعتداء على الإعلاميين وترهيبهم مادياً ومعنوياً.

الأداء السياسي المتخبط والمزري للقيادات الإسلامية في مصر وتونس يعري ضعف هذا الفصيل ويفضحه، والإعلام المنفتح يعمل على تسليط الضوء على جوانب القصور والسلبيات؛ ولذلك فإن تلك القيادات تعتقد أن قمع الإعلام وإسكاته أسهل من محاولتها تحسين الأداء.

الإسلاميون يشنون حملة شرسة على الإعلام في مصر وتونس، ويتبعون سياسات متطابقة لتركيع المجال الإعلامي، لكنهم لن يتمكنوا من ذلك، وستنتصر حرية الإعلام في البلدين اللذين شهدا ثورتين مجيدتين... هكذا تقول دروس التاريخ.

* كاتب مصري