تناقض عجيب ومُحير أصابني أثناء متابعتي ردود الأفعال حيال فيلم «ساعة ونص»، الذي طُرح في صالات العرض السينمائي، بين حفاوة واضحة من بعض النقاد ومباهاة كبيرة من منتج الفيلم بالإيرادات، بينما كنت «شاهد عيان» على القاعة الخاوية من الجمهور، والصدمة التي أصابت القلة التي شاهدت معي الفيلم، بمجرد ظهور كلمة النهاية!

Ad

النهاية الكئيبة والقاتمة التي سار إليها «القطار» بالآلاف من البشر إلى مصير مأساوي، أزعجت المشاهدين ولم تولد لديهم شعور القلق على مستقبل مصر كما توهم صانعو الفيلم، بل كانت سبباً في انصرافهم غاضبين، بعدما رأوا أن عليهم أن يدفعوا الثمن أحياء وأمواتاً، وأن أبواب الرزق أغلقت في وجوههم، والفقر سيظل يُطاردهم، والموت يقترب منهم دائماً، بينما الأغنياء يرفلون في غيهم وفسادهم، ويكافأون على ما اقترفته أيديهم!

رؤية لا تستقيم مع التطهير الذي ينبغي أن يحققه العمل الفني، بعدما شعر الجمهور بأنه يُعاقب على ذنب لم يقترفه، وأن الفيلم الذي كان يعد بالكثير انحرفت قاطرته الإبداعية، لأن كاتبه أحمد عبد الله استسلم واسترخى لنجاحه، وربما غروره، لأنه اشتهر بتمكنه من حرفية كتابة الأفلام التي تعتمد على الوحدة الزمانية والمكانية، كما فعل في «كباريه» و{الفرح» و{الليلة الكبيرة» الذي كان ينتظر تصويره ليكمل «الثلاثية»، لكنه تعطل لأسباب إنتاجية فاستبدله بـ «ساعة ونص» الذي يكشف عن محاولة واضحة من الكاتب «للي الذراع» التي اعتمدت النهج ذاته؛ حيث حصار الشخصيات في زمان واحد (ساعة ونص)، ويقودهم للوقوع تحت رحمة مكان واحد (القطار)، لكنه أفرط في حكاياته وشخصياته، وعجز عن تقنين ما يفعل فبدت الجرعة غير مُشبعة!

مع ظهور شارة فيلم «ساعة ونص» تُكتب العناوين بخط عربي أصيل يؤكد هوية الفيلم، وانحيازه إلى الشرائح الكادحة التي قدم قصصها، أو بالأحرى مآسيها، ومع تحرك مؤشر «ساعة المحطة» ليعانق «العقرب» أحد أرقامها، تخيم غيوم الشك وتنُذر بأننا إزاء خطر وشيك، وهو ما تؤكده موسيقى ياسر عبد الرحمن، ومع تتابع اللقطات تركز الكاميرا (مدير التصوير سامح سليم) في لقطة مكبرة على الحبوب وهي تُطحن وتُهرس وتُفرم حتى تتحول إلى عجينة تُلقى في الزيت المغلي في {القلاية»، ولحظتها لا يجد المشاهد صعوبة في التقاط الفكرة، والإحساس الجازم بأن ما يحدث من طحن وهرس وفرم ودهس هو المصير اليومي للمصريين!

تكثيف من نوع آخر بلغ المخرج وائل إحسان ذروته من الحرفية والسحر، عندما تخلى عن التقديم «الكلاسيكي» لشخصيات الفيلم، واستعاض عنه بكاميرا ترصد الشخصية ثم تنتقل منها إلى أخرى؛ فالكاميرا لا تتلكأ عند شخصية طويلاً، وكلُ بقدر (مونتاج شريف عابدين). ويستمر الفيلم على هذا النهج الرائع حتى يكتمل عقد الشخصيات في داخل القطار أو على رصيف المحطة؛ حيث نلتقي شخصيات تفيض بالإنسانية والعذابات الشجية، بينما السمة التي لا تستطيع أن تتجاهلها في الفيلم أن العين لا تقع على قبح، رغم مظاهره التي تحيط بالمجتمع، ربما لأن «النفوس بريئة وطاهرة»، لم يلوثها الفساد الذي عشش في كل ركن، ومع العين التي تلتقط الجمال يبدو التعاطف واضحاً مع جميع الشخصيات، فضلاً عن التأكيد، مع كل مشهد وجملة حوار، أنها «ضحايا» لكن الجرعة تبدو زائدة ومتخمة بدرجة تثير الضجر، بعدما يتسلل إليك الشعور بأن ثمة شيئاً «مفتعلاً» و{مصنوعاً»، وأن كل ما تراه مرسوم بالقلم والمسطرة، وليس مغزولاً بالمشاعر والعواطف، باستثناء العلاقة بين بائع الشاي في القطار وابنه، ورغبته في تعويضه عن فراق أمه، والفلاح الذي باع «قراريط الأرض» ليفتح عيادة لزوجته الطبيبة، لكنه يشعر حيالها بالدونية؛ خصوصاً بعدما عينته عاملاً في العيادة، لكنه يعود للاعتزاز بها بمجرد نجاحها في علاج إحدى الحالات في القطار، وتخطف مأساة الأم التي تركها ابنها ويطلب ممن يجدها أن يودعها في دار مسنين قلبك ومشاعرك وعقلك، لكن إياد نصار أفسد المشهد ببكائه المفتعل، والصنعة التي غلفت أداءه، وهي الصنعة نفسها التي أديرت بها المعركة العبثية بين الأرملة المتصابية وابنتها، والعلاقة الضبابية بين الصديقين العائدين من ليبيا بخفى حنين، على عكس العلاقة المتماسكة والمنطقية بين العجوز وزوجته الشابة.

الأفلام يصنعها الإبداع، وليست مذكرات التفسير التي يوزعها صانعو الفيلم عبر الحوارات الصحافية والإعلامية، ومن ثم فإن القول إن القطار الذي يذهب إلى مصير مجهول هو الوطن الذي ينتظره مصير كارثي، لن يُضفي على فيلم {ساعة ونص» قيمة أو أهمية، ولا ينبغي أن يكون سبباً في احتفاء النقاد به بينما الجمهور في واد آخر!