تبدو المفارقة شديدة الدلالة في حضور مسحة التدين على كل مناحي الحياة في الدول العربية والإسلامية، في مقابل زيادة تسليع شهر رمضان المبارك سنة بعد أخرى، حتى إن شهر رمضان خَلَقَ وكرّس فئات كبيرة تتعايش تجارياً واستهلاكياً على حضوره "الطهراني" السنوي.

Ad

أذكر تماماً كيف كان المجتمع يستعد لاستقبال رمضان، وكيف كان مجرد اقترابه يضفي عبيراً وعبقاً خاصاً على مناحي الحياة، ويُلبس المجتمع بمختلف أطيافه أثواباً زاهية تليق بمكانة شهر رمضان، شهر الصوم الخالص لله، وشهر القرآن، وشهر العبادة، وشهر الصلوات، وشهر الصدقات، وشهر الوصل الإنساني، وأخيراً شهر خلوة الإنسان بربه الخالق من جهة، وبعوالم نفسه من جهة ثانية... شهر رمضان هو فرصة وفسحة دينية يراد لها تخليص النفس من كل ما علق بها من شوائب نفسية وجسدية خلال سنة كاملة، وهو تجديد وصلٍ بخالق عظيم يحضّ على الاستغفار لحلول المغفرة.

إن طغيان المادية والاستهلاكية المتوحشتين على حياة شعوب الأرض، بما في ذلك الشعوب الإسلامية، رمى بصبغة استهلاكية بشعة على شهر رمضان، حتى كادت أن تطغى على كل ما سواها، فرمضان صار موسماً للشراء الشرِه والأكل أكثر منه شهراً للصوم والعبادة، وتتحمل الأسر المسلمة ميزانيات مضاعفة في شهر رمضان، وتتفنن الفنادق والمطاعم الكبيرة في جذب انتباه الصائم إلى ما بات يُعرف بالخيم الرمضانية، والتي تتفنن بدورها بتقديم صنوف الأكل والشرب. مثلما جرت الموضة على تكريس ملابس وأزياء لرمضان، وتحويل الاحتفال بنصف رمضان من فرح عفوي للأطفال، إلى تظاهرة استهلاكية مُكلفة ومزعجة ومنفرة. كما أن الهم الأكبر يكمن في تحول شهر الصوم إلى شهر متابعة المسلسلات التلفزيونية البائسة والسخيفة بكل أنواعها، وكأن المُشاهد المسلم ليس لديه همّ في رمضان إلا التنقل من محطة فضائية إلى أخرى، وبما يشكّل تخمة كبيرة للمشاهد، ويتركه ضائعاً في متابعة أعمال لا تتسع شهور عدة لاستيعابها.

إن تسليع شهر رمضان، وخلق أنماط حياتية استهلاكية ترتبط به، جاءا على حساب تفريغ رمضان من كل شحنة الإيمان والعبادة المناطة به، حتى إن البعض صار يتبع صوت المقرئ الفلاني، وخطبة وحديث الإمام الفلاني، وسجاد ورائحة المسجد الفلاني، وهذا يخرج بالعبادة من جوهرها بالتقرب إلى الله، وحصرها في استحسان الصوت والأفكار والمناظر.

إن شهر رمضان في جوهره هو قرب للعبد من ربه، وهو وصل عميق ومختلف للإنسان بخالقه، وهو فرصة سنوية للمسلم، للتخفيف من كل ما علق بروحه من ذنوب ومعاصٍ، وتخليص جسده من كل السموم الغذائية التي لحقت به على امتداد سنة بأكملها. بحيث ينبذ ملذات الحياة، ويقترب من جوهر الطاعة والنقاء والشعور بالضعيف والوصل معه. إن هجوم موجة الاستهلاك المادي البشع، من تجار رمضان، لطخ وجه رمضان الناصع البياض بأصباغ بشعة، وجعل من تذوق العبادة ممارسة بعيدة كل البعد عن هدفها الأسمى.

جميل هو التعبد في رمضان، وجميل هو الصوم الأنقى روحاً وجسداً، وجميل هو الوصل في رمضان، وجميل هو اجتماع الأسرة حول المائدة، وجميل توحد كل فئات المجتمع لتناول وجبة الفطور عند أذان المغرب في لحظة واحدة، وجميلة هي صلة الرحم، ولكن أن يلتهم الاستهلاك المادي والمظاهر الكاذبة كل هذا الصفاء فهذا شيء مؤلم.

إن الوطن العربي يمرّ بمنعطف تاريخي كبير، بخروج الشعوب العربية على الظلم والطغيان ومناداتها بالحرية وبحياة كريمة تحلم بها، وهذا جاء مخضباً بدماء الشهداء الأبرار، مما يوجب صيام رمضان وقيامه بشكل مختلف بعيد عن المظاهر الكاذبة وقريب كأقرب ما يكون إلى جوهر العبادة الصادقة.