السياسة والكآبة

نشر في 18-11-2012
آخر تحديث 18-11-2012 | 00:01
 يوسف عبدالله العنيزي نشرت قبل أسابيع دراسة قامت بها إحدى الجامعات البريطانية لمعرفة أسعد شعوب دول العالم من ناحية, ومن ناحية أخرى أكثرها إحساساً بالكآبة، وقد توصلت تلك الدراسة إلى أن شعب جمهورية كوستاريكا، وهي إحدى جمهوريات أميركا الجنوبية، يعد من أسعد شعوب العالم بينما جاء الشعبان الكويتي والقطري من أكثر الشعوب إحساساً بالكآبة.

لقد أكدت هذه الدراسة بصورة قاطعة أن الإحساس بالسعادة لا يرتبط بثراء البلد أو فقره بقدر ما يرتبط بنمط الحياة وطريقة ممارستها, وإحساس الإنسان بالرضا عن حياته أو عدمه.

أعادت لي تلك الدراسة ذكرى ذلك البلد الجميل، ففي عام 1996 كلفت من قبل وزارة الخارجية بالمشاركة في مؤتمر دول الـ"77" وهي منظمة اقتصادية دولية تحظى دولة الكويت بعضويتها, وكنت وقتها أشغل منصب سفير الكويت في جمهورية فنزويلا الصديقة، وقد ضم الوفد الشيخ سالم عبدالله الجابر الصباح سفير الكويت الحالي في واشنطن والسكرتير الأول بالسفارة في فنزويلا الشيخ فيصل بدر المالك الصباح رحمه الله.

عندما قرأت ما توصلت إليه الدراسة من نتائج أدركت عندها أن ما شاهدته في ذلك البلد يعطيه بحق المرتبة الأولى من حيث السعادة التي يشعر بها ذلك الشعب الرائع, فأول ما يلفت انتباهك في مدينة سان خوسيه عاصمة كوستاريكا عدم رؤية أي مظهر من المظاهر العسكرية أو الأمنية، فقد ألغي الجيش دستورياً عام 1949 لأن الدولة ليست بحاجة إليه بقدر حاجتها إلى هذا العدد الكبير من الشعب للإعمار والتعمير والعمل في المصانع، وزراعة البن الذي تمتد سهوله على مساحات واسعة من الدولة، وتكوين جيش من المعلمين يجوبون كل أنحاء البلاد للتدريس، حتى نزلت نسبة الأمية إلى "صفر".

خلال الزيارة التقيت مدير إدارة الشرق الأوسط في وزارة الخارجية, وعند الاستفسار منه عن أسباب إلغاء الجيش أفاد بأن البلاد لا تحتاج إليه لأنه ليس لنا أعداء، ولا ننوي الدخول في نزاع أو صراع مع أحد, فالله جعلنا خلفاء في الأرض لنعمرها لا لندمرها، أما الأموال التي سننفقها على شراء الأسلحة والمعدات فيمكن استخدامها لتوفير حياة أفضل لشعبنا، كما أن المواطن عندنا ملتزم بالقانون ولا يحتاج إلى من يرشده أو يراقبه, فهو يشعر بالذنب في حالة ارتكابه خطأ مهما صغر, ألا يستحق هذا الشعب أن يكون من أسعد شعوب العالم؟

ومن الملاحظات التي يمكن رؤيتها في تلك البلاد الجميلة الحرص على البيئة والنظافة والغابات المطرية وتنوع الطيور التي تملأ الأجواء بهجة بتغريداتها، فلا تتعرض للقنص أو "لأم صجمة" تتربص بها, وفي ردهة فندق سان خوسيه الرائع، حيث كنا نقيم، قابلت رجلاً يحمل على أكتافه عبء ما يفوق على السبعين عاماً، وكيساً فيه بعض الزيوت، وهو يرتدي ملابس الاستحمام, سألته: "كيف حالك اليوم" فأجاب بسرعة وعفوية كل الأيام جميلة وسعيدة، ولكن هناك بعض الأيام أجمل وأسعد من بعضها.

لعل من أهم مزايا ذلك الشعب أن السياسة والخوض فيها تأتي في آخر اهتماماتهم، والحديث فيها يسبب الكآبة والسأم, بينما الحديث عن الموسيقى والإجازات والأماكن الطبيعية الجميلة والبحر والاستمتاع بالحياة التي يجب ألا نضيعها في سجالات وجدل عقيم أجمل، فمن المؤكد أن أحدا لا يمكن أن يقنع أحدا بتغيير قناعاته.

ويعد هذا العرض لأسس السعادة ماذا يوجد لدينا منها في الكويت، فالنظافة هجرت شوارعنا ومناطقنا، والمستشفيات غدت بحاجة إلى العلاج، ثم قائمة من المشكلات التي تصيبك بجبال من الهم والكآبة، بل أصبحنا نتناول السياسة مع فطورنا وغدائنا، وحتى مع طعام العشاء, وإذا ما خلد الفرد للنوم بدأت الأفكار تحيط به وتنهش ذهنه بهذا الكم الهائل من الصحف اليومية والمواقع الإلكترونية والمحطات الفضائية والبرامج الحوارية التي لا ينقص بعضها إلا قفازات المصارعة.

وقد اكتملت صورت الكآبة ذات الأبعاد الثلاثة بمسيرات لا يعرف الكثير من المشاركين فيها لماذا هم فيها؟ وماذا يريدون؟ وفي اعتقادي أنها شحنات من الطاقة يريد هذا الشباب تفريغها بعد أن عجزت الدولة عن استثمارها، فوجد فيها البعض صيداً سهلاً للشحن والتوجيه, مع اليقين بأن بعض ذلك الشباب قد خرج عن إيمان بأن الأمور قد وصلت إلى نقطة لا بد من وضع حد لها.

 حفظ الله الكويت وقيادتها وأهلها من كل سوء ومكروه.

back to top