انتصار على الخوف في الثورة السورية

نشر في 17-11-2012
آخر تحديث 17-11-2012 | 00:01
حين مزق السوريون صور بشار الأسد في محافظات كثيرة، حطموا بذلك خوفهم من الموت، فلم يخف السوريون من المشاهد المريعة التي ظهرت على الشاشات العربية والتي تعرض جثثاً مشوّهة وأطرافاً مبتورة أو متورّمة، ولم تكبح تلك المشاهد عزمهم.
 واشنطن بوست رغم مظاهر القتل والدمار في سورية وإصرار الرئيس بشار الأسد على البقاء في السلطة، كسبت الثورة في هذا البلد أكثر مما خسرت خلال الأحداث التي بدأت منذ سنة ونصف. لقد كسر الثوار حاجز الخوف الذي كان سائداً في البلد طوال أربعة عقود على الأقل (إنها أخطر قوة تهدد عرش الدكتاتور).

قبل بدء الثورة في شهر مارس من السنة الماضية، كان يمكن اختصار الوضع السوري عبر التحدث عن مواجهة بين النخبة الحاكمة والمستفيدين منها من جهة وجميع الأطراف الأخرى من جهة أخرى. لم يكن البلد حينها يشمل أي أحزاب سياسية مستقلة، أو معارضة حقيقية وفاعلة، أو منتديات للنقاش السياسي، أو صحافة حرة ونقابات. اليوم، تحاول المعارضة إنشاء هذا النوع من المجتمعات المدنية.

انتقلتُ من دمشق إلى بيروت قبل سنة، لكني كنت أزور دمشق حين أستطيع. أمضيتُ أياماً هناك وأنا أشاهد حالات الفرح والحزن في مناسبات كثيرة فضلاً عن جميع التغييرات التي حصلت بسرعة فائقة لدرجة أن هذه الأحداث كانت ترهق أي شخص لا يعيش هنا.

أتذكر أول شعار رفعته مجموعة من التجّار والعاملين الشباب في منطقة الحريقة، في وسط دمشق، في فبراير 2011. كانوا يحتجون على سلوك رجل شرطة لأنه أهان صاحب متجر هناك، فهتفوا: "لا لإهانة الشعب السوري!".

كانت تلك العبارة أول ما تفوه به السوريون احتجاجاً على وضعهم. كانوا يقفون كمواطنين لهم حقوق لا كقطيع خانع ومقموع. سرعان ما انتشر صدى ذلك الشعار بين جدران المتاجر القديمة ومآذن الحي وأرصفة دمشق. بدا إيقاعه غريباً وصاخباً ومقلقاً. كان الصوت يعلو حيناً ويتلاشى أحياناً. ساد تردد وخوف بين الحشود التي لم تعلم مدى صحة رفع الصوت للمرة الأولى على الأرجح.

سرعان ما وصل وزير الداخلية إلى مكان الاحتجاج، فخرج من سيارته الفخمة ووقف أمام بابها وكأنه أراد التأكيد على سلطته العليا. قال الوزير: "عار عليكم. هذه تظاهرة!". لم يكن يعلم أن تلك التظاهرة ستتحول إلى ثورة.

في ذلك اليوم، كان السوريون يخوضون معركة ضد الخوف قبل أن تصبح معركتهم ضد قادتهم، ومع مرور الأيام، بدأ حاجز الخوف يسقط بعد أن كان حصناً منيعاً يستحيل خرقه خلال أكثر من أربعة عقود. في غضون ذلك، لم يتنبه النظام السوري بما يكفي لسقوط حاجز الخوف، فقد كان يحارب بكل شراسة لضمان صموده. ظن النظام أن صورته العظيمة لا يمكن المسّ بها.

قبل الثورة، لم يعلم الناس شيئاً عن رئيسهم عدا صورته، إذ كان الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد يصور نفسه دوماً بصفته الحاكم الوحيد، لكن كانت صور بشار الأسد تشمل عائلته كلها: هو وزوجته وأولادهما الثلاثة.

إذا لمح السوريون يوماً الرئيس في أحد المطاعم أو في الشارع أو خلال زيارة قصيرة إلى مستشفى أو مبنى حكومي، كانت الدهشة تملأ عيونهم فيشعرون بأنهم يحلمون ولا يريدون النهوض من ذلك الحلم. كيف نجح رئيسهم في فصل نفسه عن صورته العظمى التي كانت تظهر في كل مكان (في الشوارع، وعلى السيارات، وفي المطاعم، وحتى في المنازل) قبل أن يكشف أنه يشبه جميع الناس وأنه مجرد شخص عادي يضحك ويتكلم ويمشي ويعبس؟

حين مزق السوريون صور الرئيس في محافظات كثيرة، حطموا بذلك خوفهم من الموت. لم يخف السوريون من المشاهد المريعة التي ظهرت على الشاشات العربية والتي تعرض جثثاً مشوّهة وأطرافاً مبتورة أو متورّمة، ولم تكبح تلك المشاهد عزمهم. هكذا أصبح الموت والحياة متداخلين. كان مقتل أي شخص يمنح الآخرين الأمل في حياة أفضل. يشير تزايد عدد الشهداء إلى بداية نهاية القمع.

وبينما تخلص الثوار من الخوف من الموت، تخلى النظام السوري عن قدسية الموت فحوّل الجثث المغطاة في أكفان بيضاء إلى أشلاء مشوّهة ومقطّعة.

أظهر تقرير تلفزيوني عن مجزرة وقعت في شهر أغسطس في داريا (إحدى ضواحي دمشق) كيف يحاول النظام ترهيب المواطنين. في التقرير الإخباري، تنقّل مراسل تلفزيوني بين الجثث وسأل فتاة صغيرة عن هوية المرأة الميتة التي تجلس قربها، فقالت إنها والدتها.

بعد سيل ردود الأفعال على أعمال القتل في وسائل الإعلام الاجتماعية وعلى شاشات التلفزة وفي الصحف، أجرى الأسد مقابلة بعد بضعة أيام فأعلن للمرة الأولى صراحةً: الشعب هو عدونا. كل من يقف في وجه مصالحنا هو عدونا. إنها حرب إلغاء.

قد يبدو الوضع في سورية قاتماً ومأساوياً، لكن لا مفر من المرور بهذه المرحلة، ولن تكون سورية الجديدة (بغض النظر عن طبيعتها) سيئة بقدر ما كانت عليه قبل الثورة.

منذ ثلاثة أشهر تقريباً، تحدثتُ مع شاب يقيم في مدينة حرستا المحاصرة. كانت عيناه المتعبتان ترجفان، وكان كلامه يعكس مشاعر الخوف والشك والتردد.

تحدث الشاب عن أعمال العنف الأخيرة في حيّه فقال: "شعرنا بالرعب طوال الليل. ساد هدوء مخيف في المكان. لم نعد معتادين على الهدوء. بدأنا نصلي كي يتجدد إطلاق النار".

هذا الشاب لا يؤيد المعارضة وليس موالياً للنظام، هو مجرد مواطن سوري يعيش في مدينة صغيرة خارج دمشق، لكن في لحظات مماثلة، يفقد الولاء أهميته. تتلاشى الاختلافات بين الثوار والموالين خلال الحياة اليومية في هذه الأحياء المتضررة.

أوضح الشاب أن الهدوء قد يكون مؤلماً جداً وأن الفرد قد تنتابه القشعريرة خلال لحظات الترقب بانتظار استمرار العاصفة.

Dima Wannous

back to top