من الجزائر

نشر في 19-07-2012
آخر تحديث 19-07-2012 | 00:01
No Image Caption
 فوزي كريم كنت في الجزائر العاصمة لأول مرة. بدت من الطائرة كجناحي حمامة بيضاء، مشرعين على البحر المتوسط. تحتفي بعيد استقلالها الخمسين، وتعقد باسمه لقاءً ثقافياً بعنوان "روح فرانس فانون". لأن "فانون" صاحب كتاب "معذبو الأرض" كان جزءاً حياً من كفاحها الدامي والطويل ضد الاستعمار الاستيطاني الفرنسي. ندوات تتواصل لأيام عشرة، كانت حصتي منها أياماً سبعة، طرية العود بفعل الجدة المفاجئة لي. كنت أحسب الجزائر كالمغرب العربي أو تونس. بسبب اللهجة ربما، أو الرغبة الكسولة في التعميم. لكني تبينت أنها ليست كذلك. فهناك ظواهر خُصّت بها وحدها. قد تشترك تاريخياً مع مجمل الشمال الإفريقي في تعرضها للتلاقح: يونان، رومان، عرب، عثمانيون، ثم فرنسيون. ولكنها تنفرد مع هذا الأخير بعلاقة غيرت من سحنتها على امتداد استعماره الاستيطاني منذ 1830. ولعل هذا يتواصل حتى اليوم، أو المستقبل.

الاستعمار الفرنسي جعل من أرض الجزائر امتداداً لأرض فرنسا، وحاول أن يفرض على عمارتها العمارة الفرنسية، وعلى لسان أهلها اللغة الفرنسية، وعلى عقولهم توجهاً في التفكير فرنسي الطابع. والجزائري يرتضي شيئاً، ويرفض أشياء، ويتضح هذا صريحاً في حديثه وردود أفعاله.

مشاغل الندوات، وانعدام روح المغامرة لدي، وتضاريس المدينة الواسعة ذات المرتفعات، عطلتني عن اكتشاف الكثير. إلا أنني انصرفت إلى الانسان الجزائري، الذي تتنازعه تيارات تاريخية عنيفة: عربية أمازيغية تربكهما ضرورة الهوية، ويوحدهما الإسلام. عربية فرنسية تربكهما الكرامة، وتقاربهما المصلحة. إسلام طبيعي ورحب وآخر متطرف وضيق. طبع صحراوي منبسط، وآخر جبلي كثير التضاريس. ثوري من أجل الاستقلال المقدس، وآخر من أجل الفكرة المقدسة. ولكن كل هذه التعارضات لا تخلخل انتساب الجزائري إلى جزائريته.

كانت الفرنسية لغة التواصل بين الجميع، داعين ومدعوين من عرب وأجانب. وكنت أنا، الذي لا أُحسن الفرنسية، موضعَ رأفة بينهم. يتبرع واحدٌ كل حين للترجمة بالعربية أو الإنكليزية. كنت أحبّ لو تحدث الجميع الجزائرية، لهجة خليط من أمازيغية وعربية وفرنسية، لأن فيها خشونة حسية في الإمالة، ومخارج الحروف، تُذكر بالأرض التضاريسية الصلبة. سامية زناديوكريم شيخ، المشرفان على هارموني الفعاليات باسم دارهما للنشر (آبيك)، كانا الأكثر فاعلية، ومرجعاً لكل تساؤل مُلح مني، حتى في شأن الأسماك في السوق: "ثروة سمكية عالية، لكن سفن الإسبان تشتري أسماك صيادينا في البحر قبل عودة السفن إلى سواحلنا". ولأني أحب السمك، لا أكل السمك بالضرورة، فمشهده البهي كان غائباً.

لم ألتق أدباء ومفكرين جزائريين، باستثناء الذين شاركوا في المهرجان. ولقد افتقدت ذلك بالتأكيد. فمسرات نشاطات ثقافية كهذه معقودة بفرص اللقاء مع من نعرف، أو لا نعرف من الكتاب. لكن هذه الفرصة بدت لي شاحبة. عرفت في ما بعد أن معظم الأدباء فضلوا مقاطعة الندوات، أسوة بمقاطعة الوكالة المنظمة لها. ولكني أعرف أن مقاطعة النشاط شيء، ومقاطعة مشاركيه شيء آخر تماماً!

زرت "المتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر"، لكن أبهاء المكان الجديد لم تصبح متحفاً بعد. البهو الكبير بطوابقه الثلاثة اقتصر على معرض موسع للفنان المعروف "محجوب بن بَلّه". حشد تصعب ملاحقته، بفعل اعتماده التقنية التي تتكرر عبر مئتي عمل فني. حرف عربي يتجرد، ويتفشى ألواناً. وزخرف شرقي، إفريقي يتآخى مع التجريد اللوني الغربي.

في يوم تال زرت بحرص "المركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ وعلم الإنسان والتاريخ" طمعاً في الحصول على طبعة جديدة محققة وكاملة لـ"مقدمة" ابن خلدون. ولكن السيد سليمان حاشي (مدير المركز) أطلعني على نشاط في البحث والنشر مدهش. وعلى مكتبة ضخمة تحت خدمة الباحثين المعنيين. المركز تحول، منذ تأسيسه عام 1955، مرات عدة بفعل توسع اهتمامه. وهو اليوم، إلى جانب منشوراته من الكتب، يصدر "ليبيكا" (مجلة سنوية)، ومجلة التاريخ، الإنسان، والوثائق.

اقتنيت مع "المقدمة" (3 أجزاء)، كتاب "السيرة الذاتية" لابن خلدون، مقتطعة من كتابه "العِبر". إلى جانب كتب في الموروث الموسيقي الجزائري. وأنا أكتب هذه السطور، أُصغي لغناء "الشيخ رضوان بن صاري" التلمساني (1914-2002)، من مجموعة تسجيلات صدرت عن المركز:

نيرانْ شاغله في كْناني تلهب لهيبْ

والقلبْ فوقْ الجْمَار يطيبْ أطيابْ

back to top