نيتشه والموسيقى
![فوزي كريم](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1498033753948674500/1498033754000/1280x960.jpg)
التقى "نيتشه" بـ"فاغنر" عام 1868، حينما كان يدرس "فقه اللغة المقارن" في جامعة لا يبزغ. في السنة التالية أصبح "نيتشه" أستاذاً في بازل، وعلى مقربة من مسكن "فاغنر" في لوسيرن. ومنذ تلك السنة صارت زياراته له أكثر من لياقة ضيف طارئ. أصبح "نيتشه" جزءاً من العائلة الفاغنرية، وبصورة أدق، جزءاً ملحقاً لتنفيذ رغائب وحاجات ومطامح الموسيقي المتعجرف. في كتابه "مولد التراجيديا" كانت فلسفة "نيتشه" محاولة بعث لقيمة الاسطورة في حياتنا الروحية الحديثة. وخاصة الاسطورة اليونانية، التي تجسدت في الإبداع المسرحي التراجيدي. فيها وجد "الروح الديونيسية" الحارة، الغريزية، الغامضة، في مقابل "الروح الأبوللونية" العاقلة المولعة بالنظام والتوازن والضوء، والتي تجسدت في الأدب اليوناني الملحمي، والتي أعطاها شخص الفيلسوف "سقراط" معادلها الفلسفي العقلي. ولأن أوبرات "فاغنر"، ومعظم موسيقاه أوبرالية، كرّست قواها الإبداعية لسبر غور هذا العالم الداخلي، الغريزي، المعتم للإنسان، مستخدمة الأسطورة كبديل فني، أحس "نيتشه" بأن آماله الفلسفية معلقة لا على الإبداع الموسيقي وحده، بل على موسيقى "فاغنر" بالذات. علق آماله الحارة على أوبرات "فاغنر"، باعتبارها البشير لمولد التراجيدية اليونانية من جديد. مولد "الروح الديونيسية"، التي تعيد مجد الدرامي اليوناني "سوفوكليس" القرن السادس قبل الميلاد، وتعلّي من شأن القوى العصية على الإدراك، القاسية ولكن السامية للوجود (مقابل الروح الأبوللونية العاقلة). هذه "الروح الديونيسية" كانت قد خُنقت من قبل الفرضية السُقراطية، التي ترى أن "الفضيلة هي المعرفة، وخطايا الانسان وليدة الجهل، والفاضل وحده السعيد". ولقد اتهم "نيتشه" عصره "بهذه النزعة السقراطية المصممة على تحطيم الاسطورة. بحيث تركت الانسان المجرد من الاسطورة اليوم يقف جائعاً، محاطاً بكل عصور الماضي، نابشاً، منقباً عن الجذور... إن إعادة بعث الأبطال القدامى ينطوي على وعد بانبعاث روحي وقومي عبر سحر الموسيقى المتقد". من هنا وجد في "فاغنر" صانع الاسطورة، حتى طمع بخدمته في إدارة احتفالات مسرح "البايرويث" الخاص بموسيقاه. ولكن سوء سلوك "فاغنر" اتجاه براءة "نيتشه"، وتحولَه من رجل رؤى الى رجل نساء، ووجاهة، وأوساط اجتماعية مصطنعة، وخاصة بعد أن حدث "نيتشه" عام 1888عن شروعه بآخر أعماله "بارسيفال" ذي الطقس الديني المسيحي، الذي انتزع سحر البطولة الوثنية السابقة، قطعَ آخرَ خيوط السحر التي أسرت الفيلسوف الشاب. بعدها كرس جهداً لدحض رؤى "فاغنر"، ووجد في أوبرا "كارمن" الشهيرة للفرنسي "بيزيه" بديلاً حاراً، مشبعاً بشمس المتوسط.