الذي يجهله معظمُ القراء العرب أن الفيلسوف الألماني الشهير "نيتشه" (1844 - 1900) كان، منذ صباه المبكر، شديدَ الحماس للموسيقى، والنشاط في العزف والتأليف. وفي مرحلة نضجه الفلسفي صار من أكثر كتاب الغرب إثارة في الشأن الموسيقي. بدأ دروسه على البيانو منذ الخامسة مع أمه، حتى صار يتقن عزف سوناتات "بيتهوفن" بمهارة. في صباه كان كلاسيكياً في المذاق، ويبدي ازدراءً لموسيقى المجددين والطليعيين، مثل الهنغاري "فرانس ليست" الذي استقر به المقام في النمسا، والفرنسي الرومانتيكي "بيرليوز". في الرابعة عشر من العمر ألف أعمالا موسيقية تعمّد فيها النشازات اللحنية، معبراً عن "أكثر الأشياء حلكة وراديكالية عرفتُها في الموسيقى الغُرابية السحنة"، على حد تعبيره. ولكن "نيتشه" لم يصبح النموذج الموسيقي الذي كان يطمح إليه. وكلُّ نتاجه من الموسيقى لم يتعد بضعة أغنيات متأثرة بـ"شومان"، وبضعة قطع على البيانو.

Ad

في مرحلة النضج الشابة هذه أصبح "نيتشه" أقربَ المقربين للموسيقي الألماني الأشهر "ريتشارد فاغنر" (1813-1883)، ثم بعدها بسنوات لم تطُل كثيراً صار من أكثر أعدائه شراسة. بشأن هذه العلاقة صدرت كتب عديدة، لعل أولاها نص كتبه "نيتشه" ذاته بعنوان "نيتشه ضد فاغنر"، وكتاب المغني الباريتون الأشهر "ديسكاو": "نيتشه وفاغنر"، وكتاب البروفيسور الفرنسي جورج ليبير: "نيتشه والموسيقى"، وكتاب بينجامين مورتز: "الموسيقى وفكر فريدريك نيتشه".

التقى "نيتشه" بـ"فاغنر" عام 1868، حينما كان يدرس "فقه اللغة المقارن" في جامعة لا يبزغ. في السنة التالية أصبح "نيتشه" أستاذاً في بازل، وعلى مقربة من مسكن "فاغنر" في لوسيرن. ومنذ تلك السنة صارت زياراته له أكثر من لياقة ضيف طارئ. أصبح "نيتشه" جزءاً من العائلة الفاغنرية، وبصورة أدق، جزءاً ملحقاً لتنفيذ رغائب وحاجات ومطامح الموسيقي المتعجرف. في كتابه "مولد التراجيديا" كانت فلسفة "نيتشه" محاولة بعث لقيمة الاسطورة في حياتنا الروحية الحديثة. وخاصة الاسطورة اليونانية، التي تجسدت في الإبداع المسرحي التراجيدي. فيها وجد "الروح الديونيسية" الحارة، الغريزية، الغامضة، في مقابل "الروح الأبوللونية" العاقلة المولعة بالنظام والتوازن والضوء، والتي تجسدت في الأدب اليوناني الملحمي، والتي أعطاها شخص الفيلسوف "سقراط" معادلها الفلسفي العقلي. ولأن أوبرات "فاغنر"، ومعظم موسيقاه أوبرالية، كرّست قواها الإبداعية لسبر غور هذا العالم الداخلي، الغريزي، المعتم للإنسان، مستخدمة الأسطورة كبديل فني، أحس "نيتشه" بأن آماله الفلسفية معلقة لا على الإبداع الموسيقي وحده، بل على موسيقى "فاغنر" بالذات.

علق آماله الحارة على أوبرات "فاغنر"، باعتبارها البشير لمولد التراجيدية اليونانية من جديد. مولد "الروح الديونيسية"، التي تعيد مجد الدرامي اليوناني "سوفوكليس" القرن السادس قبل الميلاد، وتعلّي من شأن القوى العصية على الإدراك، القاسية ولكن السامية للوجود (مقابل الروح الأبوللونية العاقلة). هذه "الروح الديونيسية" كانت قد خُنقت من قبل الفرضية السُقراطية، التي ترى أن "الفضيلة هي المعرفة، وخطايا الانسان وليدة الجهل، والفاضل وحده السعيد". ولقد اتهم "نيتشه" عصره "بهذه النزعة السقراطية المصممة على تحطيم الاسطورة. بحيث تركت الانسان المجرد من الاسطورة اليوم يقف جائعاً، محاطاً بكل عصور الماضي، نابشاً، منقباً عن الجذور... إن إعادة بعث الأبطال القدامى ينطوي على وعد بانبعاث روحي وقومي عبر سحر الموسيقى المتقد". من هنا وجد في "فاغنر" صانع الاسطورة، حتى طمع بخدمته في إدارة احتفالات مسرح "البايرويث" الخاص بموسيقاه.

ولكن سوء سلوك "فاغنر" اتجاه براءة "نيتشه"، وتحولَه من رجل رؤى الى رجل نساء، ووجاهة، وأوساط اجتماعية مصطنعة، وخاصة بعد أن حدث "نيتشه" عام 1888عن شروعه بآخر أعماله "بارسيفال" ذي الطقس الديني المسيحي، الذي انتزع سحر البطولة الوثنية السابقة، قطعَ آخرَ خيوط السحر التي أسرت الفيلسوف الشاب. بعدها كرس جهداً لدحض رؤى "فاغنر"، ووجد في أوبرا "كارمن" الشهيرة للفرنسي "بيزيه" بديلاً حاراً، مشبعاً بشمس المتوسط.