لا أدري مَنْ ألقى في روع المرأة أنها مسؤولة عن إصلاح العالم؟! رغم أن هذا العالم لا ينفك يضعها في الصف الثاني من سلم الأولويات ومراتب الإنسانية!

Ad

تفتح الفتاة عينيها على الدنيا، فيقال لها إنها دخلت سن التكليف الشرعي منذ أن تبلغ سن التاسعة من عمرها (والحساب يكون بالسنة القمرية لا الشمسية)، أي في حدود طفولة الثامنة وبضعة أشهر. بينما الذكر لا يلج سن التكليف إلا حين بلوغه الرابعة عشرة! ورغم هذا الاعتراف الضمني بنضوج الأنثى العقلي والوجداني قبل الذكر، فإن الشكوك حول ضعفها وقصورها لا تزال موضع جدل لا ينتهي!

يريدونها ودوداً ولوداً تنضح عاطفة وأمومة وغنجاً ودلالاً، ثم ينكرون عليها مهام القوامة والحضانة والولاية بحجة حيضها ونفاسها ومزاجها وتعثرها بشَرَك العاطفة والأنوثة!

يخدعونها باحتفالات وأعياد تنطوي على الاستعراض والصخب أكثر مما تنطوي على الامتنان والاعتراف، لتكتشف في نهاية الأمر أنها لا تزال غنيمة للاستغلال وجسراً للعبور! ففي عيد الأم غالباً ما تُغرق الأمهات بطناجر الطبخ وأطقم استكانات الشاي ومفارش الطاولات والمكانس الكهربائية وأفران الميكروويف... إلخ، وكلها هدايا تلبي حاجة البيت وحاجة ساكنيه أكثر مما تلبي حاجتها! وفي احتفاليات ذكرى الزواج – إن كان هناك ثمة احتفاء – تأتي هدايا "اللانجري" والشموع والعطور لتوحي بمآرب أخرى أبعد من مجرد إسعاد القلب ورفع المعنويات!

وأمام هذه الطقوس الملتبسة لا بد لها أن تتقن الدور المرسوم وأن تبدو في كل الأحوال والمواقف ممتنة لما يحدث لها، ماضية في تقمص هذا الدور، متسائلة بقلق عبر كل مرحلة تقطعها في الحياة: هل قمتُ فعلاً بواجبي كما يجب؟ أو بحسب التعبير الإنكليزي: ?Am I good enough. قلق وهواجس لا تنتهي حول مدى استكمالها شروط الكفاية والإتقان في البنوة والأمومة والزوجية وبرّ الوالدين، امتداداً إلى الوظيفة العامة ومسؤوليات العمل. لكأن أمر إصلاح العالم منوط  بها، أو لكأن العالم سيتوقف عن الدوران في اليوم الذي تكفّ فيه عن التفكير والتدبير!

لن تكفّ المرأة في يوم من الأيام عن هذا القلق النبيل، لأنها ببساطة قد رضيت أن تكون محوراً لكل المسؤوليات والخدمات المنوطة بها، بل إن الفشل في أي موقع من مواقع هذه المسؤوليات يورثها هماً ثقيلاً وجراحات لا تندمل، لكأن كينونتها معلقة بهذا النجاح الفادح رغم تبعاته وعبئه. وإن كان الجهل في العصور الخوالي قد جعلها مطأطئة لتلك الأحمال بلا مقاومة، فإن التعليم والوعي جعلاها أكثر توتراً وقلقاً وخشية من التقصير أو الإخلال بتلك الوظيفة الأزلية، وظيفة الانشغال بإصلاح العالم من حولها.

يفشل الابن في الدراسة فتتجه الأنظار إلى الأم، تسيء الابنة اختيار الملابس أو تكثر من الماكياج فتتجه الأصابع إلى الأم، يمرض الصغار فيتجه اللوم إلى الأم. تدبّ الفوضى في غرف المعيشة أو تفشل الطبخة أو تفرغ أنبوبة الغاز أو تحرق الخادمة صينية الفرن فتكون هي المسؤولة أيضاً! إذا طُلّقت كانت هي السبب، وإذا تزوّج الرجل بأخرى ستكون هي السبب أيضاً. وإذا ظهر الزوج بمظهر رثّ فهي السبب، وإذا ترك البيت ليسوح في البلاد أو يغشى المقاهي والديوانيات فهي بلا ريب السبب الأكبر! ولن تستطيع أمام هذه الأكوام من الإدانات أن "تشيل" عيبها قطعاً! وليس أمامها إلا الاشتغال المضني لإصلاح هذه الأعطاب.

وبسبب هذا الإرث النفسي من الإحساس الدائم "بالذنب!"، بات القلق وهاجس الإتقان الملمحين الأهم في شخصيتها وأدائها. ويبدو أنها استطاعت استثمارهما حيثما أتيحت لها فرص الوظائف العامة ومراكز صنع القرار، فتُرى وقد كرّست وقتها وقدراتها بتفانٍ وإخلاص منقطع النظير، وانطلقت نحو العمل بكل طاقاتها. فليت خبراء التنمية البشرية يلتفتون إلى هذا الكنز الكامن في المرأة ويستثمرون بحق رغبتها الفطرية في إصلاح العالم.