لو لم أكن أتابع محطة (سي إن إن- CNN) الإخبارية وأنا هنا في أميركا، لما استشعرت وجود انتخابات رئاسية، وأن رئيساً جديداً سيأتي لحكم أعظم دولة في العالم. فالناس هنا في ولاية (أيوا-Iowa) وباستثناء متابعة البعض منهم للمناظرات الرئاسية(Debate) يعيشون رتم حياتهم بعيداً عن السياسة والرئاسة، وجل ما يعنيهم في أي رئيس قادم هو تحسين ظرفهم المعيشي بتوفير فرص عمل جديدة، وتقليل الضرائب وزيادة الاهتمام في الناحيتين الصحية والتعليمية. وخلاف ذلك فهم منغمسون على مدار الأسبوع، بما في ذلك يوما العطلة، بالحدث الثقافي والفني، وسأذكر هنا حدثين:

Ad

الأول: مساء الأربعاء الموافق 24 أكتوبر الماضي، وعلى (مسرح إنكلير-Englert Theatre)، الذي أسسته عائلة "إنكلير" قبل مئة عام، وكأحد أنشطة المسرح بمئويته، وجِهت دعوة للكتّاب المشاركين في "برنامج الكتابة الإبداعية العالمي" لحضور قراءة للروائية الأميركية "مارلين روبنسون-Marilynne Robinson) الفائزة ب (جائزة البوليتزر-Pulitzer Prize) عن روايتها (جلعاد-Gilead)، التي سبق أن كتبت مقالاً عنها في هذه الزاوية. ولقد أخذني شيء من الدهشة حين وصلت المسرح واتضح أن الدخول ليس بالمجان، بل بمبلغ مالي مرتفع نسبياً، يعادل الدخول لفرقة موسيقية. لكن دهشتي زادت أكثر حين شاهدت قرابة 300 شخص دفع كل منهم مبلغاً مالياً للاستماع لقراءة من روائية. وتوقفت ملياً عند الدلالة الثقافية والاجتماعية وراء ذلك. وللأسف أنا مضطر هنا لعقد مقارنة مؤلمة بين هذا التكريم الثقافي والاجتماعي، وبين ما يلاقي المبدع والأديب من إهمال وتهميش في دولنا العربية رسمياً وشعبياً!

الثاني: ضمن جدول أنشطة برنامج الكتابة الإبداعية العالمي، لظهر يوم الأحد 28 أكتوبر الماضي، هناك زيارة لمزرعة (عائلة دان-Dane Farm)، ولعشقي لحياة المزارعين ببساطتها واختلاطها بطين الأرض ورائحتها البكر، فلقد كنت متحمساً لتلك الزيارة. حين وصول الكتّاب إلى المزرعة قابلنا ترحيب أفراد عائلة دان بابتساماتهم، وعلى رأسهم الأب الثمانيني وزوجته، ومن حولهما الأبناء والأحفاد. البساطة كانت السمة الغالبة على كل شيء، رغم الثراء الواضح للأسرة. وبعد جولة بالجرار الزراعي بين أنحاء المزرعة، اجتمع المدعوون قرابة 100 شخص في صالة الطعام، وحال الانتهاء من الأكل، نهض الأب دان مرحباً بضيوفه، قائلاً: "منذ خمسة وعشرين عاماً ونحن كعائلة أميركية نتشرف بدعوة الكتّاب المشاركين في برنامج الكتابة الإبداعية العالمي لزيارة مزرعتنا والتمتع بطبخ زوجتي وحلوياتها وكذلك الآيس كريم الخاص بمصنعنا"، وأضاف: "الشكر كل الشكر لكم أيها الكتّاب الكرام على تشريفكم لنا، ولقد حرصنا على وجودكم بيننا، لتشاهدوا وجهاً مختلفاً من وجوه تكريم مدينة أيوا لكم". ومن ثم طلب من الكتّاب تقديم أنفسهم مع ذكر انطباعهم عن البرنامج والمدينة، خاصة أنهم أمضوا أكثر من شهرين هنا. وحين جاء الدور عليَّ قلت: "إنني روائي وقاص من الكويت". وتوقفت قليلاً، لأقول: "نحن كعرب، نعرف الأميركيين بسياستهم الخارجية تجاه بلداننا العربية، لذا لا نرى منهم إلا وجههم العسكري البشع، لكن وجودنا في مدينة أيوا التي اختارتها منظمة اليونسكو لتكون العاصمة الثقافية للولايات المتحدة الأميركية، قدم لنا وجوها لمدينة مختلفة وشعب مختلف. فهي عامرة بطلبة العلم من كل العالم، ففيها قرابة خمسين ألف طالب وطالبة، بمن فيهم طلاب من كل الجنسيات العربية، وهي مدينة تحتفي بالثقافة والفن في كل حياتها، حتى ان طرقها مرصوفة بطابوق يحمل أشعاراً ونقوشاً وصوراً لأدباء وفنانين. كما أن عموم الشعب هنا لا علاقة له بالسياسة، وبالتالي، فإن هذه الدعوة تقدم وصلاً إنسانياً جميلاً، يجمع البشر حول المحبة والسلام، وليت وصل أميركا في العالم يكون دائماً كذلك".