إذا تحول التكامل الأوروبي في الاتجاه المعاكس، فإن النتيجة لن تكون سلسلة من الدول القومية التي تتمتع بالسعادة والرخاء وتعيش في عالم أشبه بفترة خمسينيات أو ستينيات القرن العشرين. إذ سيتساءل أهل جنوب ألمانيا ما إذا كانوا لا يحولون أموالاً أكثر مما ينبغي إلى حزام الصدأ الصناعي القديم في الشمال؛ وسيرغب أهل شمال إيطاليا الذين يدعمون التحالف الشمالي المناهض للاتحاد الأوروبي في الوحدة التي تطلق على نفسها «بادانيا» في الإفلات من حكم روما والجنوب.
بينما يناضل زعماء أوروبا بعد قمة فاشلة أخرى، يتعين عليهم أن يفكروا ملياً في الهيئة التي قد تبدو عليها قارتهم- والعالم- إذا استمروا في إنتاج حلول غير مرضية للمشاكل المالية والاقتصادية التي تواجهها أوروبا. وما الذي قد يحدث في أعقاب تفكك منطقة اليورو- الذي يكاد يكون مؤكداً الآن- وتفكك الاتحاد الأوروبي؟إن أفضل مكان للنظر في هذه المسألة لن يكون بروكسل، بل تيراسبول عاصمة الكيان الذي يطلق على نفسه جمهورية بريدنيستروفيه المولدافية، أو ترانسنيستريا.نشأت هذه الشظية الإقليمية التي يسكنها نحو نصف مليون نسمة في أوائل تسعينيات القرن العشرين، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي (وعدد سكانه 300 مليون نسمة تقريبا)، عندما انفصلت عن جمهورية مولدوفا (وعدد سكانها أربعة ملايين)، التي انفصلت في أربعينيات القرن العشرين عن أوكرانيا (وعدد سكانها خمسون مليون نسمة).وتتمتع ترانسنيستريا بحكومة وبرلمان وجيش ودستور وعلم، ونشيد وطني حماسي على غرار النشيد الوطني السوفياتي؛ وبطبيعة الحال تظل سيادتها القومية منقوصة من دون عملة خاصة بها.إن هذا الكيان السياسي يُعَد النظير الدقيق في العالم السياسي لظاهرة مادية معروفة تتمثل بالانشقاق أو الانشطار، فعندما يُجهَد أي سطح فإنه يتفتت إلى قطع كبيرة، ولكن التفتت هنا يستمر إلى شظايا أصغر وأصغر.ومن بين دول الاتحاد الأوروبي الست الأكبر حجماً، فإن فرنسا وحدها التي تتمتع بنظام سياسي مركزي واضح المعالم حقاً، وتأتي مركزية بولندا قريبة من النظام الفرنسي، ولكن تظل بعض الاختلافات الإقليمية القوية قائمة؛ تركة الأنظمة الإمبراطورية الكبرى الثلاثة المختلفة إلى حد كبير، والتي شملت بولندا في القرن التاسع عشر.وكانت إيطاليا وألمانيا في القرن الثامن عشر بمنزلة نموذج الإدماج لمجموعة متنوعة ملونة من الوحدات السياسية الصغيرة والمتوسطة الحجم، وتبدو المملكة المتحدة أقدم وأكثر استقراراً، ولكن أسكتلندا اليوم يسيطر عليها حزب سياسي يريد إلغاء قانون الاتحاد لعام 1707، على أن يتم تحديد المستقبل بموجب استفتاء أسكتلندي في عام 2014، ولقد نجحت إسبانيا بعد دكتاتورية فرانكو في جلب الاستقرار لنفسها بمنح مناطقها الحكم الذاتي، والتي تتصرف بأكثر من طريقة اليوم وكأنها وحدات مستقلة.في هذه المناطق المفتتة سياسياً، كان منطق التكامل في الماضي يعتمد على المناطق المعبرة عن سخطها حيال النتائج السياسية والتي انجذب إليها الحلفاء الجدد في وحدات أكبر حجماً. ويكره الفرانكفونيون في جنوب ألمانيا حقيقة أن الحروب النابليونية كانت سبباً في خضوعهم للحكم البافاري؛ ولقد رأوا في القومية الألمانية وسيلة لاستخدام بروسيا وبرلين كثِقَل موازن لهيمنة ميونيخ، ولكن بمجرد توحيد ألمانيا، لم يعجب البافاريون بهذه النتيجة، ثم فكروا في أوروبا الموحدة باعتبارها ثِقَلاً للدولة الألمانية. والواقع أن بافاريا أصبحت بارعة في استخدام موارد الاتحاد الأوروبي لدعم نظامها السياسي.وكان للتكامل زخمه التاريخي الخاص؛ وعندما يسلك هذا الاتحاد اتجاهاً معاكساً فإن هذه العملية سيكون لها زخم موازن، وتعتمد الحجة ضد الهياكل الأوروبية على معاداة اتحاد النقل الذي قد يؤدي إلى قدر ما من إعادة توزيع الموارد، فلماذا تؤخَذ أموالنا منا وتُعطى لأشخاص آخرين في منطقة مختلفة تماما؟ ما هذه الحجة العجيبة التي يسوقها هؤلاء الناس؟لا شك أن الألمان الذين يفكرون في احتمال تحويل الأموال إلى جنوب أوروبا يتذكرون إعادة توحيد شطري بلادهم بعد انهيار ألمانيا الشرقية الشيوعية أثناء الفترة 1989- 1990. ولقد تمت بالفعل تحويلات هائلة، كما تم تكريس موارد وطنية لمشاريع البنية الأساسية الهائلة، ولم يكن هذا كافياً لوقف تفريغ الولايات الشرقية، مع رحيل العديد من أقدر الناس وأكثرهم حباً للمغامرة التجارية- وهي التجربة التي فرضت ضغوطاً هائلة على التضامن الوطني.إن مشاكل التحويلات في أي وحدة سياسية كبيرة تكمن في صميم النظام الفيدرالي، ولقد هيمن على تاريخ الولايات المتحدة المبكر مناقشة محتدمة دارت حول قضية التضامن، ففي عام 1970، عندما زعم ألكسندر هاملتون أن الحكومة الفيدرالية الجديدة لابد أن تتحمل ديون الولايات المتراكمة عليها منذ حرب الاستقلال، واجه هجوماً شرساً، ووفقاً لزعم جيمس ماديسون في "الأوراق الفيدرالية" فإن الوسيلة الوحيدة لدعم مثل هذا النظم السياسي الجديد كانت تتلخص في التأكد من أن السلطات الفيدرالية قليلة ومحدودة.والآن تعيش أوروبا لحظة مماثلة، فهي الآن غارقة في أزمة وجودية أشد عمقاً من أي وقت مضى منذ عام 1945، وفي حين يُعَد التخبط استجابة تتسم بها الأنظمة السياسية المعقدة، فإنه مدمر للغاية.وإذا اتسع نطاق هذه النظرة إلى مركز أوروبا السياسي باعتباره كياناً متعسفاً ومغروراً، فهذا يعني أن سلطته ستُرفَض وتواجه بالمقاومة، ورغم أن تبني معاهدة جديدة قد يبدو أشبه بعملة غير واقعية، وغير ملائمة لإدارة أزمة سياسية حديثة سريعة التغيير، فإن هذا يشكل الوسيلة الوحيدة لتوليد الشرعية اللازمة للمؤسسات التي نحتاج إليها لمعالجة هذه الأزمة، خصوصاً لتوفير قدر من الطمأنينة إلى أن التحويلات لن تكون إلى أجل غير مسمى وبلا حدود.إذا تحول التكامل الأوروبي في الاتجاه المعاكس، فإن النتيجة لن تكون سلسلة من الدول القومية التي تتمتع بالسعادة والرخاء وتعيش في عالم أشبه بفترة خمسينيات أو ستينيات القرن العشرين. إذ سيتساءل أهل جنوب ألمانيا ما إذا كانوا لا يحولون أموالاً أكثر مما ينبغي إلى حزام الصدأ الصناعي القديم في الشمال؛ وسيرغب أهل شمال إيطاليا الذين يدعمون التحالف الشمالي المناهض للاتحاد الأوروبي في الوحدة التي تطلق على نفسها "بادانيا" في الإفلات من حكم روما والجنوب.وعلى هذا فإن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء لا تعني ببساطة عودة أوروبا إلى منتصف القرن العشرين فحسب، بل إن هذا قد يسفر عن إعادة خلق الدويلات الصغيرة التي ترجع إلى منتصف القرن التاسع عشر، في غياب أي تحويلات مالية من منطقة محدودة نسبياً، ولكن الديناميكية قد تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك: فالمناطق الألمانية كانت تشتمل على نحو 350 كياناً سياسياً مستقلاً في منتصف القرن الثامن عشر، وأكثر من ثلاثة آلاف قبل منتصف القرن السابع عشر. الحذر، ترانسنيستريا!* هارولد جيمس | Harold James ، أستاذ التاريخ والشؤون الدولية في جامعة برينستون، وأستاذ التاريخ في معهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا، وهو مؤلف كتاب «خلق وتدمير القيمة: دورة العولمة».«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
شظايا أوروبا
07-06-2012