كلما دخلت على الوسم أو "الهاشتاق" الخاص بـ"ملتقى النهضة" في "تويتر"، أكاد لا أصدق أن هذه التغريدات الهجومية المشتعلة تتحدث حقاً عن ذلك الملتقى الرائع الذي شاركت فيه العام الماضي في الدوحة، فألقيت فيه محاضرة بعنوان "البناء المعرفي"، (يمكن لمن يرغب الاطلاع عليها أن يجدها، هي وبقية محاضرات الملتقى على شبكة "اليوتيوب"). ملتقى النهضة الذي أعرف والذي شاركت فيه ليس سوى نشاط فكري جميل تشرف عليه مجموعة طيبة من الشباب، من متعددي الاهتمامات والتوجهات، فيدعون إليه محاضرين ومتحدثين من التوجهات والأفكار والاهتمامات المختلفة أيضاً، لتتحاور معهم مجموعة مختارة من الشباب من التوجهات والأفكار والاهتمامات المختلفة كذلك.

Ad

كل فعاليات الملتقى علنية، ولا شيء فيه مخفي، وكل محاضراته توضع بعد ذلك على الإنترنت، بل تُرسل أخباره وأبرز فعالياته وعبارات متحدثيه، عبر "تويتر" في ذات اللحظة التي تقال فيها، بواسطة الحضور بكل حرية وتلقائية عبر "الفيس بوك" و"تويتر". انعقد المؤتمر بنجاح وسلام لمرتين سابقاً، في المنامة وفي الدوحة، ولم تنشق الأرض ولم تسقط السماء كسفاً ولم تنضب البحار من بعد ذلك، وحين وصل إلى الكويت، صاحبة الدستور الأعرق في المنطقة، والبرلمان الديمقراطي المنتخب، والحريات، وغير ذلك من مرفقات وإكسسوارات هذه الحزمة المعروفة المتكررة على الألسن، قامت الدنيا ولم تقعد، فظهر من يتهمه بشتى أنواع الاتهامات والموبقات من العمالة والإرهاب والإفساد بل الإلحاد، ويهدد من يقفون خلفه بالويل والثبور وعظائم الأمور. اللافت للنظر أن من يقفون ضد الملتقى هم أيضا من التوجهات والأفكار المختلفة، فاجتمع الشامي على المغربي لدوافعهم المختلفة. أكثر من يهاجمونه، بل ربما الأغلب من هؤلاء، لا يعرفون عن طبيعته شيئاً في الحقيقة، وللأسف، والبعض يهاجمونه فقط عداء للشيخ سلمان العودة، والذي هو المشرف العام على الملتقى وإن لم يكن في الواقع ممن يديرون تفاصيله حسبما عاصرت في العام الماضي، وهناك من يهاجمون عنوانه، وهو الذي حوى هذا العام مصطلح "الدولة المدنية" قولاً منهم إن ذلك سينافي الإسلام، وهناك أيضاً من يهاجمونه رفضاً لبعض الأسماء التي ستتحدث فيه، وهناك من يهاجمونه لأسباب أخرى، كفكرة أن يقيم المشاركون في ذات الفندق طوال أيام النشاط! وغير ذلك من أسباب، بعضها لا يستحق أن يذكر.

لن أدافع عن الشيخ العودة، فهو ليس بحاجة إلى ذلك، فالرجل اليوم علم ورمز، لا أشك شخصياً للحظة بإخلاصه لهذا الدين ولهذه الأمة، ولا أزكي على الله أحداً، وكفى به فخراً أن يتقاطر كل هؤلاء للنيل منه والتجريح به عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وأن تصل بهم الحال إلى تأليب الأنظمة والسلطات ضده، وألا يرد عليهم ولا بكلمة واحدة، فلله درك يا شيخ سلمان. وأما رفض استخدام عنوان "الدولة المدنية"، وحتى من قبل أن يطلع الإنسان على تفصيلات المقصود، فهو يدل على ضعف فهم للمراد، لأن دولة الإسلام التي نؤمن بها ونريدها هي دولة مدنية خالصة، وليست دولة غوغائية، بل إن ممارسة رفض الآخر وإقصائه، حتى من قبل أن يقول شيئاً كما حصل مع ملتقى النهضة، هو رأس الغوغائية والفوضى!

أما مسألة رفض الأسماء بسبب توجهاتها، ما بين من هو "شيعي" ومن هو "ليبرالي" ومن يتهمونه "بالإلحاد"، فالغريب حقاً أن هؤلاء جميعاً ليسوا من النكرات غير المعروفين، الذين جاء الملتقى ليظهرهم، بل هم من المعروفين ممن لهم قنواتهم الإعلامية ومنابرهم التي كانوا يبثون من خلالها ما لديهم من أفكار وطروحات بكل حرية، وإن كان هناك من سيتأثر بهم فلن يمكن منعه، وبالتالي فإن استضافتهم اليوم في "ملتقى النهضة" مع غيرهم، ليتحدثوا ومن ثم مناقشتهم، لن يغير من الأمر شيئاً، خصوصا أن الملتقى، وبالرغم من كونه علنياً، هو ملتقى نخبوي لا يأتيه إلا من يعرفون ماذا يريدون، وماذا يفعلون، كحال كل المنتديات الفكرية والثقافية العميقة!

"ملتقى النهضة" ليس على غرار ملتقيات الرأي الواحد، التي لا يخرج محاضروها عن ذات المدرسة الفكرية، كائناً ما كانت هذه المدرسة، لكنه ملتقى حر متعدد التوجهات، وإن في إطار منضبط.

لكن ما اتضح لي اليوم، هو أن القوم يخافون هذه الحرية وهذا الانعتاق، لأنه شيء لا يفهمونه، وفي ذات الوقت لا يقوون على الوقوف أمامه فكرةً لفكرة، لذلك هم يسعون إلى تعطيله وإيقافه.

ومع ذلك، فهذه الضجة التي قامت ضد "ملتقى النهضة" لا تقلقني، حتى لو تمكنوا من تعطيله هذا العام، لأنه زاد من شهرته ومعرفة الناس به أضعاف ما كان في السابق، حيث شاهد محاضرتي فيه، على سبيل المثال، أضعاف من شاهدوها يوم ألقيتها العام الماضي، وسرعان ما سيجد الملتقى لذلك مكانا أفضل للانعقاد، وسيجد له كذلك دعماً أكبر وحضوراً أكثر، وسيكون له التأثير الأوسع.

وفق الله القائمين على "ملتقى النهضة"، وأثابهم بظلم الناس لهم، خصوصا ذوي القربى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.