ما قل ودل: قراءة متأنية في مسودة الدستور المصري ... تطبيق شرع الله كلمة حق يراد بها باطل (2)

نشر في 12-11-2012
آخر تحديث 12-11-2012 | 00:01
ما نراه هو استحالة تطبيق الحدود (مثل حد السرقة وحد الحرابة) لأن ما نعتقده شرطاً ضرورياً لتطبيق العقوبات الشرعية، هو وجوب توفير العوامل والعناصر التي بدونها لا يتهيأ المناخ الصالح لتطبيق هذه العقوبات، وهو المناخ الذي شُرّعت في ظله هذه العقوبات.
 المستشار شفيق إمام رأي الإمام حسن البنا

لأن القانون علم وصياغة، وهو أحد العلوم الكونية فيما ينظمه من حياة الجماعة، وهو لازم من لوازم وجودها يقول المرحوم الإمام الشهيد حسن البنا في كتابه "مقاصد القرآن الكريم": "القرآن الكريم لم ينزل ليكون كتاب طب أو فلك أو صناعة أو زراعة بل كتاب توجيه اجتماعي إلى أمهات المناهج الاجتماعية التي إذا سلكها الناس سعدوا في دنياهم وفازوا في آخرتهم". ويرد فضيلة الشيخ حسن البنا على علماء الدين الذين يرون أن القرآن الكريم قد تضمن كل أصول العلوم الكونية، ومنهم الإمام الغزالي قديماً في "جوهر القرآن" والشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره "الجواهر" والدكتور عبدالعزيز إسماعيل في كتابه "القرآن والطب".

يرد عليهم فيقول: "إنه جهد مشكور ولكنه تكليف بما لم يكلف الله به قد يصل في كثير من الأحيان إلى التكلف، وخروج بالقرآن عما نزل من الهداية والإصلاح الاجتماعي".

رأي سيد قطب

ويقول سيد قطب وهو أحد أقطاب جماعة "الإخوان المسلمين" في كتابه "نحو مجتمع إسلامي": "حتى الفروض النظرية التي افترضها الفقه الإسلامي وأجاب عليها لم تكن إلا من وحي هذا الحاجات، أو من وحي منطق البيئة التي أحاطت بهم والعصر الذي عاشوا فيه، والعلاقات والارتباطات الاجتماعية التي كانت سائدة في تلك البيئة وفي هذا العصر".

ويضيف: "إن هذه النظرية العامة لا تقتصر على فقهاء الإسلام الذين عرفوا بهذا اللقب، إنما تشمل كذلك حتى صحابة رسول الله- بعد موته صلى الله عليه وسلم- فأبو بكر وعمر وعلي وابن عباس وابن عمر وإخوانهم- رضي الله عنهم - هم أكثر بصراً بشريعة الإسلام من غير شك، وأعمق إدراكاً لمبادئها واتجاهاتها بلا جدال، ولكن تطبيقاتهم لهذه الشريعة لا تخرج عن تلك القواعد، وهي أنها جاءت تلبية مباشرة لحاجات البيئة ومقتضيات العصر، ولا يمكن أبدا أن تصبح جزءاً مقدساً من الشريعة".

لا حصانة لمخلوق أمام القضاء

والحقيقة، أنه كان أمام التيار الإسلامي فرصة ذهبية بأغلبيته التي له في الجمعية التأسيسية ليبرهن على مصداقيته في المناداة بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، بأن يعلن في الجمعية التأسيسية بأعلى صوته أنه: لا حصانة لمخلوق أمام القضاء.

ويرفض تبعاً لذلك إقرار بعض الأحكام التي وردت ولا تتفق ومبادئ الشريعة الإسلامية التي ينادون بها، وهي الحصانة القضائية المقررة لأعضاء البرلمان ولرئيس الجمهورية والتي تمنع اتهامه بارتكاب أي جريمة جنائية، ولو كانت الخيانة العظمي أو استغلال نفوذ إلا بقرار تصدره أغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب، وبناء على طلب موقع من ثلث أعضاء المجلس، كما تمنع تحريك الدعوى الجنائية ضد رئيس مجلس الوزراء أو الوزراء في الجرائم التي تقع منهم أثناء تأدية وظائفهم إلا بقرار يصدره رئيس الجمهورية أو أغلبية أعضاء مجلس النواب بناء على طلب ثلث أعضائه.

فالأحكام الشرعية المستمدة من القرآن والسنّة، تقرر مبدأ المساواة أمام القانون وأمام القضاء، الذي لا يعرف التفرقة أو التمييز بين أفراده، في قوله تعالى: ") يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"، ويقول الرسول- صلى الله عليه وسلم- "الناس سواسية كأسنان المشط"، كما قال الرسول (صلى الله عليه وسلم) "لو أن فاطمة سرقت لقطعت يدها".

وليس معنى هذا أنني أعارض الحصانة القضائية لأعضاء البرلمان، وإن كنت أطالب بترشيد الأحكام المتعلقة بها حتى لا يكون رفعها أو الإبقاء عليها رهناً بانتماء العضو إلى تصنيف سياسي له الأغلبية داخل البرلمان أو ليست له هذه الأغلبية.

أحكام تزهو بها الشريعة الإسلامية:

كما كان أمام التيار الإسلامي فرصة رائعة، ليُضمِّن نصوص الدستور بعض أحكام الشريعة الإسلامية قطعية الثبوت قطعية الدلالة التي من شأنها تفعيل التزامات الدولة في صون الحقوق، ليثبت مصداقيته، ولاسيما أن في مبادئ الشريعة الإسلامية من الضمانات ما تزهو به على الدساتير المعاصرة، ومن هذه المبادئ النص على أنه:

"إذا وقع ضرر على النفس مما يستوجب الديَّة وفقاً لأحكام الشرع الإسلامي وتعذرت معرفة المسؤول عن تعويضه، وجب الضمان على الدولة على الوجه المبين في القانون".

فهذا النص يفصل ما تنص عليه المادة (58) من مسودة الدستور من كفالة الدولة حصول المستحقين على تعويض عادل في حالة القتل على الوجه المبين في القانون، من ناحية التزام الدولة ذاتها بأداء التعويض، فالقانون قد يكفل ذلك بطرق متعددة، وقد يكون منها إعفاء المستحقين من الرسوم القضائية عند مقاضاة المسؤول جنائياً أو مدنياً، ومن ناحية أخرى، فإن الحكم الشرعي يشمل أي ضرر يقع على النفس، وليس القتل وحده.

تطبيق الحدود الشرعية

أما إذا كان ما يراد من تطبيق الشرع هو تطبيق الحدود الشرعية من قطع يد السارق، فمن الآراء في الفقه الإسلامي ما لا يلائم العصر الذي نعيشه، إذ يرى هذا الفقه أن حد السرقة لا يطبق على سرقة ونهب المال العام، لأن السارق شريك في هذا المال، وعن تطبيق "حد الحرابة" في هذه الجريمة وغيرها من الحدود الشرعية، فإن ما نراه هو استحالة تطبيق هذه الحدود لأن ما نعتقده شرطاً ضرورياً لتطبيق العقوبات الشرعية، هو وجوب توفير العوامل والعناصر التي بدونها لا يتهيأ المناخ الصالح لتطبيق هذه العقوبات، وهو المناخ الذي شُرّعت في ظله هذه العقوبات، ولقد عبر عن ذلك أصدق تعبير، رجل الفقه والحكم والسياسة السيد الصادق المهدي زعيم حزب الأمة السوداني، وهو من أشد المتحمسين للشريعة الإسلامية، عندما قرر وبالحرف الواحد في كتابه "العقوبات الشرعية": "إنها طائر في سرب أو رافد في نهر، ولا يجوز الحديث عن الطائر وإغفال سربه، ولا الحديث عن الرافد وإغفال نهره".

والحديث عن هذا السرب وعن هذا النهر سيشق على البعض، ولا أحد سيجرؤ على الاقتراب منه، لأنه يتطلب من المواطنين قدراً كبيراً من التضحية، ويلقي على عاتق الدولة قدراً أكبر من الأعباء، فيخطئ من يظن أن الإسلام يحاصر الجرائم بالعقوبات الشرعية وحدها، بل يحاصرها بالنظام الاجتماعي والعدالة الاجتماعية، وعندما تحقق الدولة ذلك تكون قد استأصلت أسباب الجرائم، واكتمل السرب الذي فيه الطائر، وانسابت مياه النهر الذي فيه الرافد، ومن هنا تصبح العقوبات زواجر.

back to top