أحياناً تُخفي الكتابةُ الجيدة على الورق سلوكاً رديئاً لدى المؤلف الذي وراءها. أروع النصوص التي تكشف عن هذه العورة هي رسائل المؤلف الشخصية المتبادلة. ورسائل مثقفي الغرب أكثر كتبهم إغراءً للملاحقة، ربما رغبة في اكتشاف المفارقة. رسائل همِنْغواي الصادرة حديثاً في مجلدين عينة ممتازة.

Ad

في العراق، على ما أذكر، وجد بعضٌ من جيل ثورة 1958 في قصص همنغواي مفتتحاً لأفق متفائل، مُشرع للمستقبل، حتى إنهم أسسوا جمعية صغيرة باسمه. ولعلهم جميعاً كانوا بفعل الحماسة يقاربون بين أبطال الكاتب وبين شخصه: ألم يشترك في الحرب الكبرى الأولى جندياً شجاعاً، ويُسهم في الحرب الأهلية الإسبانية، ويرافق كاسترو، ويغامر في الغابات والبحار، ويعانق بطولة مصارعي الثيران، ويأسر المرأة كبطل عاشق، وتحتفي به الشهرة، وتحيط به الثروة، وحين يكتفي من كل ثروة الحياة هذه يختم حياته بالانتحار عن إرادة؟

لابد أن من سيطلع من هؤلاء على حياة الرجل عبر رسائله سيصاب بخيبة ظن بالغة. انتحر همنغواي برصاصة في الرأس في صباح اليوم الثاني من يونيو 1961، في البيت الذي عاش فيه مع زوجته الرابعة ماري ويلش، في "إيداهو". كانت حياته الزوجية الأخيرة التي امتدت عشر سنوات قد تميزت بإدمان متطرف على الكحول، وبجنون عظمة، وميل للأذى الجسدي، والعنف. وقد سجلت زوجته ماري تفاصيل هذا في يومياتها. بين مرحلة شبابه يوم خدم في العسكرية وبين هذا الميل للعنف لك أن تحصي ثلاث زيجات فاشلة، موت طفلين، خمسة حوادث سيارة، حادثتي تحطم طائرة، محاولتي انتحار برصاصة، كانت الثانية منهما مميتة، رحلتي صيد قربته من الموت، اندفاع باتجاه الشهرة، ثروة غير مستقرة، ضرب من النجاح الأدبي بالغ الغرابة بحيث بدا لعينيه قرين الفشل. إلى جانب أبناء لم يخلف في داخلهم منه إلا الكراهية. بشأن الشهرة يكتب له غريغوري، الابن الأصغر عام 1952: "إذا ما جمعتك بعضاً لبعض سأحصل على التالي، يا أبي: إنك كتبت بضعة قصص جيدة، رواية حققت اقتراباً ناضراً من الواقع، وإنك حطّمت مصيرَ خمسة أشخاص: هادلي، بولين، مارتي، باتريك، وربما شخصي أيضاً. أيهما أكثر أهمية في نظرك القصص ذات التمركز "للأنا" أم الأهل؟". وفي رسالة أخرى: "ليرحم الرب روحك على مقدار البؤس الذي سببته لنا. إذا ما جمعني الزمن بك ثانية وأنت تهيل علي قرف قسوتك المدمرة وغير المنطقية فسأسحق رأسك على الأرض وامزجه بأسمنت بناء البيوت...".

هذه ردة فعل بالتأكيد تكشف عن مقدار معاناة الابن الأصغر، الذي أودى به الإهمال والجفاء والقسوة إلى انحراف بالغ الخطورة. أصبح غريغوري طبيباً ناجحاً، وأباً لخمسة أبناء من زوجات ثلاث. ولكنه دخل يوماً دار سينما في لوس أنجلس متبرجاً بملابس نساء بصورة أزعجت الجمهور، فاقتيد على الأثر للتوقيف، ثم للمحاكمة. حين سمعت أخته بولين بالخبر سارعت للسفر إليه. ولكنها ما إن تركت الطائرة حتى أصيبت بتمزق شرياني خطير أودى بحياتها على الأثر. غريغوري بعد الحادثة أجرى عملية جراحية لتغيير جنسه إلى امرأة، واتخذ اسم غلوريا. في كتاب يومياته "بابا همنغواي" (1976)، كتب عن محاولة أبيه لاتهامه بأنه السبب وراء موت أخته، الأمر الذي لم ينكره غريغوري.

في صورة غلاف الرسائل يبدو همنغواي شاباً في ثياب عسكرية، تحمل شارة شرف اكتُشف فيما بعد أنها ليست حقيقية. فهو لم يُقبل في العسكرية، واستجابة لاندفاعته ضُمّ إلى العاملين في الصليب الأحمر. ولعله أكثر الكتاب رغبة في إعطاء قرائه انطباعاً بأنه يكتب عن خبرة حياة واسعة. هذا الولع صاحبه منذ شبابه المبكر ككاتب. والحقيقة أن الخبرة التي يتحدث عنها محض خيال لا حقيقة لها. حتى انتحاره لم يعد يبدو خياراً، لأن نزعة الانتحار لم تكن من نصيبه وحده داخل عائلته. فقد انتحر أبوه قبله، وأخوه ليستر، وأخته أورسُلا.