بين أركان منزلي كلها في طهران، كانت غرفة الجلوس الرمز الأبرز على حياتي الهائمة المستعارة. احتوت هذه الغرفة قطع أثاث متباينة تعود إلى أماكن وأزمنة مختلفة جُمعت معاً نتيجة الشح المادي من ناحية ونتيجة ذوقي المتنوع من ناحية أخرى. لكن المفارقة أن هذه العناصر المتنافرة ولدت توازناً افتقرت إليه الغرف الأخرى في الشقة التي فُرشت بإتقان.

Ad

كانت والدتي تجن كلما رأت اللوحات متكئة على الجدران والزهريات موضوعة على الأرض والنوافذ خالية من الستائر. وقد أصررت على عدم تغطية النوافذ إلى أن ذكرتني أننا نعيش في بلد إسلامي ولا مفر من وضع الستائر على النوافذ. وكانت تنوح دوماً مرددة: لا أعرف ما إذا كنت ابنتي، ألم أربيك على الترتيب والتنظيم؟ تكون نبرة صوتها جادة، إلا أنها كررت هذه الشكوى مرات كثيرة على مر السنين إلى أن تحولت إلى طقس رقيق. كانت تقول: آذي (هذا لقبي)، صرت اليوم امرأة ناضجة، فتصرفي بنضج. لكن نبرة صوتها حملت في طياتها ما أبقاني شابة وهشة وعنيدة. على رغم ذلك، أدرك كلما عاودتني ذكرى صوتها أنني لم أعش يوماً على قدر توقعاتها. لم أصبح السيدة التي حضتني على أن أكونها.

اكتسبت تلك الغرفة، التي لم أعرها الكثير من اهتمامي في تلك الفترة، مكانة مختلفة في ذهني اليوم بعد أن تحوّلت إلى محور ذكريات عزيزة على قلبي. كانت غرفة واسعة فيها قليل من الأثاث والزينة. شغل إحدى زواياها موقد من صنع زوجي بيجان. وعلى أحد الجدران استندت أريكة بمقعدين غطيتها بملاءة مخرمة أهدتني إياها أمي قبل زمن طويل. ووضعت قبالة النافذة أريكة كبيرة لونها بني باهت وجاورها كرسيان وطاولة مربعة ضخمة يعلوها لوح زجاج.

أحببت الجلوس دوماً في الكرسي وظهري الى النافذة التي تطل على شارع عريض غير نافذ يُدعى آذر. قبالة هذه النافذة يقع المستشفى الأميركي سابقاً. كان هذا مستشفى خاصاً وحصرياً في الماضي، بيد أنه تحول اليوم إلى منشأة طبية تضج بحشود الجرحى والمعوقين من قدامى المحاربين. في نهايات الأسابيع (الخميس والجمعة في إيران)، كان الشارع يغصّ بزوار المستشفى. فتخالهم يستجمون في نزهة، حاملين معهم السندويتشات ومصطحبين الأولاد. وكانت باحة منزل جارنا الأمامية ومصدر فخره ضحية هذه الحشود الأولى، خصوصاً في فصل الصيف حين ينقض العواد على وروده الجميلة. كنا نسمع صراخ الأولاد وبكاءهم وضحكهم، التي امتزجت غالباً بصراخ الأمهات وتهديدهن ووعيدهن. اعتاد بعض الأولاد الضغط على جرس بابنا والهرب بسرعة. وكان يكررون تمرينهم الخطر هذه بين الفينة والأخرى.

كانت أمي تشغل الطابق الأولى من المبنى، وتقع شقة أخي في الطابق الثالث، إلا أنها كانت خالية غالباً لأنه هجرها قاصداً لندن. من شقتنا في الطابق الثاني، كان بإمكاني رؤية أغصان شجرة مورقة وجبال إلبرز في البعيد وراء المباني. كان الشارع والمستشفى والزوار محجوبين عن الرؤية، وما كنا نشعر بوجودهم إلا من خلال الضجيج الذي تسرب إلينا من الأسفل.

ما كان بإمكاني رؤية جبالي المفضلة من كرسيّ المعتاد. ولكن شغلت الجدار البعيد من غرفة الطعام قبالة الكرسي مرآة بيضاوية قديمة أهداني إياها والدي. وفيها كنت أتأمل انعكاس صورة قمم الجبال المكللة بالثلوج حتى في الصيف وأراقب الأشجار وهي تبدل ألوانها. فقوى هذا المشهد المحجوب انطباعي أن الضجيج قادم من مكان بعيد لا من الشارع، من مكان تشكل همهمته المتواصلة صلتنا الوحيدة بالعالم الذي رفضنا خلال تلك الساعات القليلة الإقرار بوجوده.

تحوّلت هذه الغرفة لنا جميعاً موضعاً للانتهاكات. يا لها من أرض للعجائب! كنا نتحلق حول الطاولة المربعة التي تتوسطها باقات الأزهار وندخل عوالم ما قرأناه من قصص ونخرج منها. عندما أنظر إلى الوراء، أقف مذهولة أمام الكم الهائل من المعارف الذي اكتسيناه من دون أن نتنبه لذلك. وكما يقول نابوكوف، اختبرنا تحوّل الحصاة العادية في الحياة العادية إلى جوهرة من خلال عين الخيال السحرية.