حين جئت للمشاركة في الدورة الـ46 لبرنامج "الكتابة الإبداعية العالمي" الذي ينعقد سنوياً في جامعة "أيوا"، بحضور ما يقارب من (25 كاتباً) من مختلف دول العالم، كنتُ محمّلاً ببعض الأفكار والتصورات المسبقة عن أنشطة البرنامج. لكن "منْ رأى ليس كمن سمع". فلقد توقعت أن تُعقد جلسات ورشة الترجمة بإدارة مترجمين وأساتذة متخصصين، في أحد الفصول أو القاعات الدراسية في الجامعة. وأن يتم اختيار موضوع بعينه ومن ثم يبدأ العمل المشترك لترجمته. في حين أن جلسات الورشة جاءت بشكل مغاير يستحق الوقوف عنده، وربما الاقتداء به في الكويت، سواء في أنشطة المؤسسة الرسمية المسؤولة عن الثقافة، وأعنى بذلك "المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب"، أو المؤسسة الأهلية "رابطة الأدباء"، أو أي من الملتقيات الأدبية والفنية النشطة على الساحة الثقافية.

Ad

"بيت شامباو- Shambaugh House"، هو المركز الأساسي لإدارة أنشطة البرنامج، بيت بسيط مكوّن من ثلاث طوابق، ويقع على الشارع الرئيسي للمدينة، وهناك يتواجد بشكل يومي الموظفون المسؤولون عن مختلف الأنشطة، الثقافية والفنية والمالية والصحية. وفي الدور الأرضي للبيت توجد قاعة تتسع لحوالي 50 شخصاً تستغل لمختلف الأغراض الثقافية، ويعقد فيها لقاء الأدباء، وتُقرأ فيها القصائد والقصص القصيرة، بحضور جمهور يأتي خصوصاً للتعرف على ثقافة الآخر.

في اللقاء الأول لورشة الترجمة، حضر قرابة 50 شخصاً من مختلف الأعمار، وفي كلمة مختصرة لرئيس البرنامج، الدكتور "كريستفر ميرل-Christopher Merrill" قال: "إننا سعداء بأن تبدأ أعمال ورشة الترجمة لعام 2012، بوجود الكتّاب والمترجمين، وعلى كل كاتب أن يختار المترجم الأنسب لعالمه الإبداعي للعمل معه، وكذلك على كل مترجم أن يتجه صوب الكاتب الذي يرى في نفسه شغفاً للعمل معه". بعد ذلك قام كل شخص بالتعريف عن نفسه وأعماله في كلمات قليلة، ما أن انتهى الجميع من تقديم أنفسهم، حتى عاد الدكتور كريستفر، للقول: "الآن يبدأ عمل الورشة، أرجوكم لا تترددوا في التواصل مع بعضكم البعض". وبشكل عفوي نهض الجميع للتعارف في ما بينهم.

استوقفني بشكل كبير كل ما جرى، في عفويته وبساطته وموضوعيته وكونه عملياً وبعيداً عن الصيغة الجامدة والمتكلفة التي اعتدنا عليها. فما ان نهض الجميع وتصافحوا بودٍ إنساني، وكأن احتكاك الجلود يسقط عنها غربتها، حتى راح كل كاتب في حوار معمّق مع مترجم، وتتسع الحلقة قليلاً حين ينضم مترجم ثان للحوار.

جاء مترجم نحوي، وهو طالب دكتوراه، وأعاد تعريف نفسه لي، قائلاً: "سأسعد بالتعامل معك". كان يتكلم بلغته الأميركية، وحين سألته: "هل سبق لك أن ترجمت أي عمل عربي إلى الأنكليزية؟". ردَّ وابتسامة طيبة تعلو وجهه: "أبداً". ولأني رحت أنظر إليه محاولاً تفهم طلبه، ولأنه ربما أدرك مبعث استغرابي، أوضح لي: "ستقوم أنتَ باختيار إحدى قصصك، ونجلس معاً لتنقل لي حدثها الأساسي ومكانها وزمانها وجملها وأبطالها وشروحها، وسأقوم أنا من طرفي بترجمتها وفق شرحك لي، وبعد أن ننتهي، سينضم لنا محرر مختص للنظر في ما عملنا، وأخيراً نحمل القصة لمترجم متخصص لتلميع ما قمنا بترجمته".

نعم، التواصل مع الآخر يحمل الأجمل دائماً، وأعني بذلك الجديد، فأنا كنتُ أتصور أنني سأحمل إحدى قصصي أو فصل من روايتي لمترجم متخصص يقوم من طرفه بالترجمة، وإذا بالورشة هنا، تأخذ معنى مختلفاً، معنى يرتكز على فتح حوار حي مع الآخر، ومحاولة الوصول إلى فهم مشترك للعمل، ويضيف المترجم طالب الدكتوراه يخاطبني قائلاً: "يهمني سماع الكلمات العربية، بنطقها ورنين حروفها، فمؤكد أن جزءا من المعنى يأتي من وقع الكلمة على سمع المتلقي".